تيارت
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

صلاة الفاتح بين أقوال التيجانية وذخائر الروايات

اذهب الى الأسفل

صلاة الفاتح بين أقوال التيجانية وذخائر الروايات Empty صلاة الفاتح بين أقوال التيجانية وذخائر الروايات

مُساهمة من طرف ربيع الانس الخميس أبريل 19, 2012 2:21 pm

صلاة الفاتح بين أقوال التيجانية وذخائر الروايات

د.حيدر عيدروس علي

باحث شرعي


2009-08-01

لحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، والصلاة والسلام على رسول الله الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق ودامغ جيشات الأباطيل، أما بعد:

فكنت قد قرأتُ عن صلاة الفاتح، وكيف جاءت عند التيجانية، وما ذكروه في فضلها، كما قرأتُ بعض الردود على ذلك، ولم يكن الأمرُ يشغلُني كثيراً لأنَّ فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفايةً للمجتهد الحريص الدائب، فضلا عن مقتصد مفرِّط مثلي، مع يقيني الذي لا يتزعزع بأن المتأخرين مهما اجتهدوا فلن يبلغوا عُشر مِعشار ما بلغه الصحابة والتابعون، ومن تبعهم بإحسان؛ في دأبهم وحرصهم على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج منضبط رشيد، يرد الغالي، ويستنهض التالي، ومن ظن أنه أتبعُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فقد ركب مراكبَ الهوى، وأطلق أشرعتها في بحر لجي متلاطم، في ليل مدلهم حجبت زواهرَه الغيومُ.

ولم أهتم لأمر صلاة الفاتح إلا بعد أن وقفتُ على نصوصٍ في دواوين السنة تضمنت صيغاً مماثلة لهذه الصلاة، وزادت على نصها الكثير، فقادني ذلك إلى التأمل فيها، والبحث في شأنها على النحو الذي تراه.

فأما صلاة الفاتح عند التِّيجانية فنصها هو: ((اللهم صلِّ على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، ناصر الحق بالحق، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم)). ويذكر التيجانية أن هذا النص تلقاه أبو العباس التيجاني من البكري، ثم بعد ذلك تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، وهذا هو المشهور والمتواتر عندهم، وقد طفحت به كتبهم.

وأما أبو العباس التيجاني الذي تنتسب إليه الطائفة التيجانية، فهو: أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن محمد بن سالم أبو العباس التِّيجاني المضاوي( 1)، الذي ولد في سنة خمسين ومئة وألف هجرية، بقرية "عين ماضي"، التي تقـع الآن في الجـزائر، وحفظ القرآن في صغره على يد الشيخ محمد التِّيجاني، ثم اشتغل بطلب العلوم الشرعية؛ فقرأ مختصر خليل، ومقدمة ابن رشـد، والأخضري(2 ). ثم مال إلى طريق التصوف، وكان لرحلاته الكثيرة أثرٌ في سلوكه هـذا الطريقَ، وتُوفي في شهر شوال من سنة ثلاثين ومئتين وألف هجرية( 3).

ويذكر عبد الحفيظ بنخويا –وهو أحد الباحثين في هذا المجال-؛ أن نسبة التيجاني إلى (بني توجين)( 4)، وهم أخواله الذين نشأ فيهم، أو إلى (تيجانة)، إذ انتقل جدُّه الرابع إلى أحواز مدينة آسفي، بمنطقة (بني توجين)، أو (تيجانة)، واستقر بها فصار أتباعه وأهل طريقته يعرفون بالتيجانيين( 5). وهذا اعتسافٌ منه في توجيه النسبة؛ إذ النسبة إلى (توجين): (توجيني). ولعل التوجيه السليم هو: إلى (تيجانة)، ولم أقف على رأي صواب في الدلالة عليها، إلا أن يتعسف متعسف فيقول: إن بني توجين هم بنو تيجانة، وهو ما لم يقل به أحد من أهل المعرفة بالأنساب. ومن العجيب جداً أن صحفياً يعمل محرراً بجريدة العلم المغربية ذكر بأن تيجانة قرية قريبة من المدينة المنورة، وهو ما لم يذكره أحد ممن حصر قرى الحجاز( 6)، فأرجو من التيجانية أن يحرروا هذه النسبة لكونها تتعلق برأس طائفتهم.

وللتيجانية احتفاء كبير بصلاة الفاتح، ومن أقوالهم في فضلها ما يدهش القارئ ويحيره، ومن ذلك ما سطره الشيخ محمد بن سعد بن عبد الله الرباطابي( 7) في كتابه: (الدرر السنية، في فضل صلاة الفاتح، وجوهرة الكمال)( 8)، فقال: فأما فضل صلاة الفاتح؛ فأكثر من أن يحصر، وأعظم من أن يسطر، فمن المقرَّر عند العلماء الأعلام العملُ بجميع ما يتلقاه العارفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان في اليقظة، أو في المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية، وكلُّ ما ذكره شيخنا أحمد التيجاني -رضي الله عنه- في فضل صلاة الفاتح وجوهرة الكمال، هو مما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، ليس فيه مصادمة للنصوص القطعية، ولا ما يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية، إذ غاية ما ذكره أنه إخبار عدل بما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر غير خارج عن دين الله القويم، وتضعيف الأجر الثابت أصله بالكتاب والسنة، قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء} [البقرة: 261]، وفي الحديث: ((إن الحبة(9 ) بعشرة أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة))، وإذا عُلم ذلك فنقول: إن صلاة الفاتح لها من الفضائل ثماني مراتب، والمذكور من فضلها جزء من المرتبة الأولى، وغير ذلك كله مكتومٌ، ومما ذكر من فضلها غير المكتومِ: أن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات(10 )، يموت على الإيمان(11 ).اهـ.

هكذا ذكر الشيخ (محمد بن سعد الرباطابي) فضل صلاة الفاتح، وذكر أن الشيخ (أبا العباس أحمد التيجاني) تلقاها من النبي صلى الله عليه وسلم كفاحاً في اليقظة، والشيخ محمد بن سعد من المُقَدَّمين الكبار في الطريقة التيجانية، وكتابه (الدرر السنية) من الكتب المعتمدة عندهم، وقد صدر في طبعته الأولى في عام خمسة وسبعين وثلاث مئة وألف من الهجرة المباركة، من مكتبة القاهرة، ومطبعة حجازي بالقاهرة. وله كتاب آخر سماه: (الصراط المستقيم في الرد على ما نسب للسادة التيجانية بأن صلاة الفاتح أفضل من القرآن العظيم)، وقد طبعته، ونشرته الجهتان المذكورتان، وفي نفس العام الذي طبعت فيه (الدرر السنية).

وقد نفى الشيخ محمد بن سعد الرباطابي في كتابه الأخير (الصراط المستقيم...) القول المشهور الذي نسب إليهم بأن قراءة صلاة الفاتح مرة واحدة تعدل قراءة القرآن العظيم ست مرات، وكان لزاماً أن ينفي ذلك لأنَّ معتقِد ذلك خارج عن دين الإسلام، وهو ما يُحمد للشيخ محمد بن سعد، وأرجو أن لا يكون في التيجانية من يقول بذلك، لما فيه من خطر الكفر الذي يهرُب منه المسلم.

أما ما ذكره الشيخ محمد بن سعد في كتاب (الدُّرر السَّنية) في فضل هذه الصلاة، ففيه ما يفتقر إلى دليل يؤيده، ومن ذلك قوله بأن التيجاني تلقى هذه الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، فهو قول حري بأن يتأمله طلابُ الحق من التيجانية وغيرهم ممن ينهلون من مشرب موافق، لا أن يجتهدوا في إثباته، إذ هو من جملة ما يخالَفون فيه، ويطالَبون بالرجوع عنه، وأسأل الله أن يوفقني في إظهار حجتي في رد كلام الشيخ محمد بن سعد الرباطابي -رحمه الله- في صلاة الفاتح، وما يتعلق بها، إذ كلٌ يؤخذ من قوله ويرد، إلا النبي صلى الله عليه وسلم فأقول وبالله التوفيق:-

أولا: قوله -رحمه الله-: (فمن المقرر عند العلماء الأعلام؛ العمل بجميع ما يتلقاه العارفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء كان في اليقظة، أو في المنام، ما لم يصادم شيئاً من النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية).اهـ.

فهذا كلام عجيب، إذ كيف يتصادم ما تلقاه العارفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة أو المنام مع النصوص القطعية، أو يؤدي إلى انخرام قاعدة شرعية؟!! فإذا كان الْمُلْقِي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم والمتلقِّي هو العالم، الثقة، العارف، الورع، التقي، النقي، الزاهد،... إلى آخر الصفات الحميدة، فكيف يأتي بما يتصادم مع القواعد الشرعية، أو بما يؤدي إلى انخرامها؟! تأمل أخي طالب الحق، والله يلهمني وإياك الصواب. وإن كان التصادم، أو الانخرام يمكن أن يحدثا، ويترتب على أي منها عدم الأخذ بقول المتلقي حينئذ فهذا يدل على احتمال وقوع الكذب أو الخطأ من بعض من تحملوا ذلك، وإلا فيلزم أن يكون كلام الشيخ -رحمه الله- من قبيل تحصيل الحاصل، ولا داعي له!

وقد يعترض معترض بأن هذا قد حدث وقوعه في روايات الحديث النبوي الشريف كثيراً، وقد اجتهد العلماء في التوفيق بين هذه الروايات المتعارضة المتصادمة، بالطرق المعروفة لديهم، أو اعتماد بعضها دون بعض. ويُرد على هذا الاعتراض بأن هذا يتم انطلاقاً من مرتكزات وقواعد علمية معروفة لدى المختصين من علماء الحديث؛ بما لديهم من معرفة واسعة بالأسانيد والمتون، أما في حالتنا هذه فالنص المتأخر لا سند له، ولا شاهد له مما صح عن الصحابة الكرام، فيلزم عند حدوث التصادم أو التعارض أن يتم إسقاط النص المتأخر، لكونه لا سند ولا شاهد له، وإذا قبلنا ذلك، ثبت لدينا أن الكلام المتقدم نقلُه عن الشيخ محمد بن سعد هو تحصيل حاصل، وإن رفضنا قبول المرتكزات والقواعد التي أسسها العلماء دخلنا في نفق مظلم، والعياذ بالله.

ثانيا: قوله: ((وفي الحديث: "إن الحبة بعشرة أمثالها، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة")).اهـ. فهذا الحديث لم أقف عليه بهذا اللفظ بعد بحث طويل، وواضح أن كلمة (حبة)، محرفة عن (حسنة)، فقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه عز وجل، قال: قال: ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها وعملها كتبها الله له عنده عشرَ حسنات، إلى سبع مئة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة))( 12)، وله صيغ أخرى في الصحيحين، وغيرهما عن غير ابن عباس -رضي الله عنهما-، ويبدو أن الأمر قد نتج عن تداخل ألفاظ هذا الحديث بألفاظ الآية الكريمة {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: (261)]، وقد اعتنى علماءُ الأمة بكتابة حديث النبي صلى الله عليه وسلم بمنتهى الدقة، فكان حرياً بمن تولى طباعة هذا الكتاب ومقابلته أن يراعي ذلك؛ لأنه جانب جليل وأمر مهم، فإن الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور العظيمة والمهام الجسيمة.

ثالثا: قوله: ((وإذا عُلم ذلك فنقول: إن صلاة الفاتح لها من الفضائل ثماني مراتب، والمذكور من فضلها جزء من المرتبة الأولى، وغير ذلك كله مكتومٌ، ومما ذكر من فضلها غير المكتومِ: أن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات( 13)، يموت على الإيمان)).اهـ.

ولي عند هذا القول ثلاث وقفات:

الأُولى: من الذي حدَّدَ هذه المراتب؟ تنبه أخي القارئ الكريم للإجابة، وهي لا تخرج عن أحد احتمالين؛ فإن قيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو قول يحتاج لتوثيق؛ لأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيرٍ فهو للمسلمين كافة، فحتى أهل بيته وخاصته -رضوان الله عليهم- لم يصح أنه خصَّهم بشيء دون غيرهم من المسلمين، ويدل على ذلك ما أخرجه الشيخان؛ البخاري ومسلم، من حديث إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطَبَنا عليٌّ، فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فقال: فيها الجراحات، وأسنان الإبل، والمدينة حَرَمٌ ما بين عَيْرٍ إلى كذا، فمن أحدَثَ فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يُقبل منه صرفٌ، ولا عدلٌ، ومن تولَّى غيرَ مواليه فعليه مثلُ ذلك، وذمةُ المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك(14 ). وأخرجه البخاري من وجه آخر، من حديث أبي جحيفة، قال: قلت لعلي -رضي الله عنه-: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: والذي فَلَقَ الحبةَ، وبرأَ النسمةَ، ما أعلمه، إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العَقْل، وفَِكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلمٌ بكافر(15 ).اهـ. والصحابة هم أولى الناس بمعرفة هذا الفضل، والأخذ منه.

وإن قيل: إن الذي حدد هذه المراتب هو التيجاني، فهذا أمر يستحق التفكر والتأمل، إذ لا يجرؤ على ذلك أحد من الناس، لأنه من متعلقات الوحي الكريم!! فهل من وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!! وما أظن أن يخرج الأمر عن هذين الاحتمالين!

الثانية: قوله: ((وغير ذلك كله مكتومٌ)).اهـ.

والمكتوم حسب كلام الشيخ، هو: ما تبقى مما ورد في المرتبة الأولى، وما ورد في سائر المراتب السبع التي تليها!

ولسائل أن يسأل: من الذي كتمه؟ ولماذا حددت بثماني مراتب ثم كتم أمرها؟ وتنبه مرة أخرى أخي القارئ الكريم للإجابة؛ يا من تبحث عن الحقيقة، ويا من لا يحجبك حب الشيوخ عن تحري الحق، فإن قيل: كتمه الرسول صلى الله عليه وسلم، -وحاشاه أن يكتم- فإنه قول من أقوال الكفر الصريح؛ لأننا نشهد -فيما نشهد به- أنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغ ما أرسل به، ولم يترك أمراً يقربنا إلى الجنة، أو يباعدنا عن النَّار إلا وبينه لنا. وروى الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}...الآية( 16) [المائدة: 67]، وإن قيل: كتمه أبو العباس التيجاني فهذا أمر آخر يستحق مراجعة قوية من التيجانية، إذ ثبت بالدليل القطعي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بَلََّغَ ما أُنزل إليه من ربه، ولم يكتم منه شيئاً، وأنه ليس لأحد بعده أن يكتم شيئاً، ولم يقل بذلك إلا فرق الباطنية، ولا شك أن النزوع نحو الفكر الباطني أمر يأباه جلُّ المنتسبين إلى الطائفة التيجانية، فيما يظهر لي لأنهم يحرصون على الخيرات، وهم المعنيون بهذا الحوار.

الثالثة: قوله: ((ومما ذكر من فضلها غير المكتوم: أن من قرأها مرة واحدة تُضمن له سعادةُ الدارين، ومنه: أن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات(17 )، يموت على الإيمان)).اهـ.

وينشأ على هذا القول سؤال: إذا كان من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، فما المكتومُ بعد ذلك؟ إذ ليس بعد سعادة الدارين مطلبٌ، وهي منتهى رغبة المسلم!!! وكذلك قوله: فيمن قرأها عشرات: يموت على الإيمان، فماذا يُكتم بعد هذه البشرى العظيمة؟ فإن من مات على الإيمان ينال حسن الخاتمة، وهو عجيب أيضاً، ومتصادم مع سابقه!!! فإن من قرأها مرة واحدة تضمن له سعادة الدارين، أما من قرأها عشرات يموت على الإيمان فقط، وفي ذلك اختلاف يحتار معه العاقل، فالأولى أن يقال: إن من واظب على قراءتها كل يوم عشرات، تضمن له سعادة الدارين، ومن قرأها مرة واحدة يموت على الإيمان؛ لأن الموت على الإيمان لا يلزم أن يكون صاحبُه سعيداً في الدنيا، كما أن سعادةَ الدار الآخرة قد تكون متفاوتة لمن يموت على الإيمان من غير تقييد؛ لأن الإيمان درجات، والمؤمنون في درجات متفاوتة في الجنة، فمن نال سعادة الدار الآخرة تحققت له أعلى درجات الفوز، بخلاف من مات على الإيمان على العموم!! والعجب يا أخي ألاَّ تتعجب من ذلك، فإن كانت هذه البشارات من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أولى الناس بها هم الصحابةُ الكرام رضوان الله عليهم، فإننا مهما اجتهدنا في الطاعات، وأتينا من الحسنات ما يوازي جبلَ أحدٍ ذهباً، فلن نبلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه. فإذا لم تكن هذه البشارات قد بُشِّر بها الصحابة في كتب السنة، فكيف نقتنِعُ بأن من يأتي بعدهم يمكنُ أن يحصل على فضل لم ينلْه الصحابةُ؛ كلُهم، أو بعضُهم، مهما بلغ المتأخرُ من الفضل؟!

وأما صلاةُ الفاتح التي زعم أبو العباس التيجاني أنه تلقاها من البكري –وهو فيما أحسب مصطفى بن كمال البكري مؤسس الطريقة الخلوتية- فهي صيغة ناقصة، ومجتزأة من صيغ أخرى أوسعَ منها، وهي معروفة عن سيدنا علي -رضي الله عنه- فقد أخرج الحافظ سعيدُ بنُ منصور التميمي الخراساني المكي -المتوفَّى في سنة سبع وعشرين ومئتين بعد الهجرة- في سننه، فيما نقله الحافظ ابن كثير في التفسير، عنه-، عن نوح بن قيس، حدثنا سلامة الكندي، أن علياً -رضي الله عنه- كان يُعَلِّم الناس هذا الدعاء: (اللهم داحي المدحوات، وبارئ المسموكات، وجبار القلوب على فطرتها؛ شقيها، وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، وفضائل آلائك؛ على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والمعلن الحق بالحق، والدامغ لجيشات الأباطيل، كما حمل فاضطلع بأمرك لطاعتك، مستوفزاً في مرضاتك، غير نكلٍ في قدم، ولا واهنٍ في عزم، واعياً لوحيك، حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك، حتى أورى قبساً لقابس آلاء الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، وأبهج موضحات الأعلام، ونائرات الأحكام، ومنيرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين، وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة، اللهم افسح له في عدنك، واجزه مضاعفات الخير من فضلك، مهنآت له غير مكدرات، من فوز ثوابك المعلول، وجزيل عطائك المجمول، اللهم أعل على بناء البانين بنيانه، وأكرم مثواه لديك ونزله، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطة فصل، وحجة وبرهان عظيم(18 )).اهـ.

وأخرجه الحافظ الطبراني في المعجم الأوسط عن سعيد بن مسعدة، عن سعيد بن منصور، به( 19).وتابع الحافظَ سعيدَ بنَ منصورٍ على هذه الرواية -كما قال الحافظ ابن كثير- الإمامان الحافظان يزيدُ بنُ هارون، وزيدُ بنُ الحباب؛ رحم الله الجميع.

وأخرج الحافظ ابنُ أبي شيبة نحوَ ذلك في المصنف: فقال: حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الله الأسدي، عن رجل، عن علي –قال- كان يقول: (اللهم يا داحي المدحوات، ويا باني المبنيات، ويا مرسي المرسيات، ويا جبار القلوب على فطرتها؛ شقيها، وسعيدها، ويا باسط الرحمة للمتقين؛ اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك، وعواطف زواكي رحمتك، على محمد عبدك ورسولك؛ الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، وفالج الحق بالحق، ودامغ جيشات الأباطيل، كما حملته فاضطلع بأمرك، مستنصرا في رضوانك، غير ناكل عن قدم، ولا مَثْني عن عزم، حافظ لعهدك، ماض لنفاذ أمرك، حتى أورى قبسا لقابس، آلاءُ الله تصل بأهله أسبابه، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم، وأنهج موضحات الأعلام، ومنيرات الإسلام، ودائرات الأحكام، فهو أمينك المأمون، وشاهدك يوم الدين، وبعيثك رحمة للعالمين، اللهم افسح له مفسحا عندك، وأعطه بعد رضاه الرضا من فوز ثوابك المحلول، وعظيم جزائك المعلول، اللهم أتمم له موعدك، بابتعاثك إياه مقبول الشفاعة، عدل الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطيب فصل، وحجة وبرهان عظيم، اللهم اجعلنا سامعين مطيعين، وأولياء مخلصين، ورفقاء مصاحبين، اللهم بلغه منا السلام واردد علينا منه السلام)(20 ).

وبهذا يتضح أن صيغة صلاة الفاتح موجودة ضمن نصٍ طويلٍ مشهورٍ موقوفٍ على عليٍ -رضي الله عنه-. وهذا النص مع كونه من المشهور عن أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، كما قال الحافظ ابن كثير في الموضع السابق- فإنه لم يرد بسندٍ صحيحٍ، ففي إسناد سعيد بن منصور، سلامة الكندي، وروايته عن علي -رضي الله عنه- غير متصلة، قال أبو حاتم الرازي: (سلامة الكندي؛ روى عن علي بن أبى طالب -رضي الله عنه- مرسلً حديثَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه نوح بن قيس الحُدانيِّ( 21)).اهـ. وقول الحافظ أبي حاتم الرازي هذا يثبت رواية الحافظ سعيد بن منصور، ويشهد لرواية ابن أبي شيبة!

وأما إسناد الحافظ ابن أبي شيبة ففيه رجل مبهم، إذن فحتى هذه الصلاة التي رُويت موقوفةً على سيدنا علي -رضي الله عنه- ففي الصحيح غنىً عنها، وإن اهتم بها أهلُ العربية والأدب كابن قتيبة -رحمه الله- الذي أوردها في غريب الحديث، باعتبار ما فيها من بديع المعاني( 22).

وأما ما ذكره الشيخ (محمد بن سعد الرباطابي) عن تلقي التيجاني لهذه الصلاة كفاحاً من النبي صلى الله عليه وسلم وفي اليقظة، فهذا يعتبر من البحوث المحدثة التي لم يقل بها أهل التصوف في عهده القديم الزاهر، فقد بوب الأستاذ أبو القاسم القشيري(23 ) بابا في رسالته في التصوف سماه: (باب: رؤيا القوم)، وذكر فيه أحاديث كثيرة عن الرؤيا، وأورد قصصا كثيرة عن رؤيا الصالحين والزهاد من سلف هذه الأمة، ولم يرد في شيئ منها أن أحدهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، بل قال رحمه الله: (وقال بعضهم: في النوم معان ليست في اليقظة؛ منها أنه يرى المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة، والسلف الماضيين في النوم، ولا يراهم في اليقظة، وكذلك يرى الحق في النوم، وهذه مزية عظيمة)) (24 ).اهـ. وتؤكد نقول القشيري أن مسألة الرؤيا في اليقظة أمر لم يرد في أقوال سلف الأمة الصالح، ومن ذلك قوله: سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: (تعود شاه الكرماني( 25) السهر، فغلبه النوم مرة، فرأى الحق سبحانه، في النوم، فكان يتكلف النوم بعد ذلك، فقيل له في ذلك؛ فقال:

رأيت سرور قلبي في منامي فأحببت التنعُّس والمناما)(26 )

فلو أن القشيري كان يعلم أن أحدا من صالحي الأمة من الصوفية وغيرهم قال: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة بعد انتقاله صلوات ربي وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى لما أورد ما أورد من هذه الجمل.

وقد بوب كثير من المصنفين أبوابا مثل ذلك، بل بعضهم من صنف كتبا كاملة في الرؤيا والمنامات، ولكنهم لم يوردوا مسألة الرؤيا في اليقظة، ولكن ذهب المتأخرون من المنتسبين إلى الصوفية، إلى القول برؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، بعد أن انخرمت لديهم قاعدة التلقي التي بناها أبو سليمان الداراني( 27)، وشيدها من بعده أبو القاسم الجنيد( 28) -سيد الطائفة الصوفية-رحمهما الله- فقد قال أبو سليمان -رضي الله عنه-: ((ليس ينبغي لمن أُلْهِمَ شيئاً من الخير أن يعملَ به حتى يسمعَه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمِل به، وحَمِد الله -عز وجل- على ما وفق من قلبه( 29))).اهـ. وقال الجنيد -رحمه الله-: ((عِلمُنا مضبوطٌ؛ الكتابُ والسنةُ، من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، ولم يتفقَّه، لا يُقتدى به(30 ))).اهـ. وهذا ما جعل العلماء من الصوفيةَ في عهودهم الأولى يحرصون على التزام العمل بالنصوص الصحيحة، كما يفهم من كلام الداراني، والجنيد -رضي الله عنهما-، أما المتأخرون فلم يلتزموا بتلك الضوابط.

وقد وافق التيجانية في ذلك الجمع الغفير من الصوفية في هذا العصر؛ ومن هؤلاء الأستاذ الشيخ عبد المحمود الحفيان(31 ) -رحمه الله- الذي قال في كتابه (نظرات في التصوف الإسلامي)، في كلامه عن شخصية الشيخ (حسن ود حُسُونة ود موسى): ((وترجع أصوله في الطريقة القادرية إلى المغرب العربي، إلا أن المشهور أنه أويسي المشرب، تلقى من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والسند المتصل بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان سنداً منقطعاً لا تصح به رواية عند علماء الحديث؛ لأنهم يشترطون اللقيا: (شرط البخاري)، أو المعاصرة (عند مسلم)، وكل من يسند خبراً أو عملاً للرسول صلى الله عليه وسلم يعتبر إسناده منقطعاً، ما لم تتصل حَلَقاتُ هذا السند (رواته) بعضُها ببعض مع العدالة والضبط، وإمكان اللقيا، وإلا كان السند ضعيفاً بالانقطاع( 32))).اهـ.

وهذا كلام عجيب جداً، فإن الشيخ حسن ولد حُسُونة ، وُلِد في منطقة شرق النيل، في شمال سهل البُطانة المتاخم للحدود الشرقية، والجنوبية الشرقية لولاية الخرطوم في السودان، ووُلِد والده حُسُونة في ذات المنطقة أيضاً، أما جده موسى فقد قيل: إنه جاء من الأندلس، فألقى عصاه واستقر به النوى في ربوع المسلمية في المنطقة ذاتها(33 )، فلو أن الشيخ الحفيان ذكر أن أصوله العِرْقيَّة ترجع إلى المغرب العربي لكان حسناً، ومقبولاً؛ لأن هذا هو المعروف، أما أن يقول: ((وترجع أصوله في الطريقة القادرية إلى المغرب العربي))، فهذا ما لا يمكن قبوله إلا بإسناد قدمه الشيخ حسن ولد حُسُونة نفسه، وورثه عنه أتباعه، ولكن المعروف أن الشيخ حسن لم يذكر أي سند له في الطريق القادري، لا هو بنفسه، ولا أتباعه، ومريدوه، من بعده، ولا والده، ولا جده من قبله!

وهو أيضا يتعارض مع قوله: ((إلا أن المشهور أنه أويسي المشرب، تلقى من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم نقله في الفقرة الماضية.

ويتعارض مع قول آخر له جاء فيه: ((وقد كان سيدي الشيخ حسن بن حُسُونة من الذين دخلت روحهم عالم الأمر، فسمع وهو شهيد، فتأتى له أن يطوي مقامات عالم الخلق، ليتصل بحضرة النبوة في عالم الأمر( 34)، إلا أن عهد الرسالة بالعلم قد أخذ على علماء الإرشاد أن يبينوا للناس ما علموا من سند، ولا يكتمونه حتى لا يتصل من يأتي بسلسلة منقطعة، ذلك لأن الإسناد الحسي والمعنوي( 35) من الدين، ولا يؤذن بطي الإسناد في عالم الخلق -بعد الرسالة الخاتمة- إلا للمهدي عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، وسواهما إذا طوى الإسناد مخبرا عن علو مكانته في عالم الأمر -تحدثا بنعمة الله- فإنه يلزمه ألا يكون حلقة في سند من يليه، خشية الانقطاع( 36).اهـ.

ووجه التعارض المزدوج، أو المركَّب، هو: أن الشيخ الحفيان ذكر بأن الشيخ حسن ولد حُسُونة: قادري الطريقة، ثم ذكر مرة أخرى بأنه أويسي المشرب، ثم ذكر مرة أخرى أن روحه قد دخلت في عالم الأمر، فسمع وهو شهيد، أي تلقى كفاحا من النبي صلى الله عليه وسلم! ثم اعترف -بعد ذلك- بخطورة انقطاع السند، وأنه لا يؤذن بطي الإسناد إلا للمهدي المنتظر رضي الله عنه، أو لسيدنا عيسى صلى الله عليه وسلم(37 ).

وكان حرياً بالشيخ عبد المحمود الحفيان -رحمه الله- أن يلتزم بموافقة علماء الحديث؛ لأنهم أعلم الناس بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ما حمل أبا القاسم الجنيد -رحمه الله، وهو إمام الطائفة الصوفية قاطبة- أن يقول القول الذي نقلته عنه آنفاً، ولو التزم الشيخ الحفيان، والشيوخ المتأخرون بذلك؛ لسلمت لنا مناهجُنا العلمية التي شارك في تشييدها علماءُ الصوفية الأوائل، ممن قعَّدوا للتصوف قواعدَه، حتى يوافق المتأخرُ الأولَ في متابعة مستنيرة، بمنهج ضُمنتْ لنا فيه السلامة، فإذا غاب شيء عن أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي، وغيرهم من أئمة الحديث، وغاب كذلك عن العارفين بالحديث والآثار من الصوفية، مثل أبي سليمان الداراني، وتلميذه أحمد بن أبي الحواري، وأبي القاسم الجنيد، وتلميذه الحافظ أبي محمد جعفر بن محمد بن نصير الخواص المعروف بجعفر الخُلْدي، وأبي نصر السراج الطوسي -صاحب اللُّمَع، وأبي طالب المكي -صاحب قوت القلوب، وأبي عبد الرحمن السلمي-صاحب طبقات الصوفية، وأبي نعيم الحافظ الأصبهاني -صاحب الموسوعة الحديثية الصوفية (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)، وأبي القاسم القشيري -صاحب الرسالة، وأبي الحسن الهجويري الغزنوي -صاحب كشف المحجوب، وأبي حفص السُّهْروردي -صاحب عوارف المعارف، وغيرهم ممن اعتنى بالتصوف؛ فإذا عَزَبَ علمُ ذلك عن أولئك -وهم أكثر جمعاً وتحصيلاً، وأشد حرصاً على متابعة العلم- فمن أين للمتأخرين من الصوفية أن يحصلوه، أيها الأحباب الكرام؟!!

ولا يفوتني هنا أن أذكر ما حدث لجعفر الخُلْدي تلميذ الجنيد -رحمهما الله- الذي قال: لو تركني الصوفية لجئتكم بإسناد الدنيا، مضيت إلى عباس الدوري وأنا حدث، فكتبت عنه مجلساً واحداً، وخرجت من عنده، فلقيني بعض من كنت أصحبه من الصوفية، فقال: أيش هذا معك؟! فأريته إياه، فقال: ويحك تدع علم الخِرَق وتأخذ علم الورق، قال: ثم خَرَّق الأوراق، فدخل كلامه في قلبي، فلم أعد إلى عباس!

وهذا الذي ذكره جعفر الخُلْدي من قبيل التحسر على ما فاته من علم عباس بن محمد الدوري -رحمه الله-( 38)، لأنه جاء للتعلم منه، وهو حدث صغير، فلم يتركه صاحبه الصوفي، ليأخذ من علم عباس الدوري، ولو تركه لمواصلة الطلب مع عباس لحصَّل إسناداً كثيراً، وعلماً غزيراً، ولكن عباس توفي بعد ذلك بسنوات قليلة، ولم يرجع إليه جعفر، وفاته علمه، ومثل هذا يحدث في الصوفية كثيراً، خاصة في العهود الأخيرة هذه، ولكن العزاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم-: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله( 39))). ومع ذلك فقد جمع جعفر الخُلْدي حكايات كثيرة جداً عن الصوفية، حتى قيل في هذه الحكايات: إنها إحدى عجائب بغداد الثلاث(40)، ولم يرد في حكاية واحدة منها أن واحداً من الصوفية السابقين رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة.

أما القول بأن أويساً القرني -رضي الله عنه- قد تلقى من النبي صلى الله عليه وسلم فهو قول لا يصح البتة؛ لأن كل الروايات التي وردت في كتب الحديث، وفي كتب التصوف، في ذكر أويسٍ -رضي الله عنه- لم تذكر ذلك، إذ لو ثبت ذلك لعُدَّ في الصحابة الكرام، وإنما جاء في الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره، ووصفه( 41)، وهذه الروايات لم تذكر بأنه تلقى عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى- حرفاً واحداً في اليقظة، ولمَّا لم يذكره أحد من أئمة الحديث في الكتب التي حصرت أسماء الصحابة، وترجمت لهم، عُلِم أنه من مخضرمي التابعين(42 ) الذين لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم، كما لم تذكر لنا الروايات المتقدمة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، حتى ينسب إليه منسوب ممن يزعمون أنهم تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقظة، فيقال: فلان أويسي المشرب!!!

وعاد الشيخ الحفيان ليسلك بنا منهج العرفان الصوفي في العهود المتأخرة، والذي لم يكن معروفاً لدى الصوفية الأوائل، فقال: ((إلا أن الأمر عندنا في علم التصوف ليس على ما اتفق عليه علماء مصطلح الحديث؛ ذلك لأن علاقة الصوفي بالرسول صلى الله عليه وسلم علاقة رُوحية، تلتقي فيها رُوح الرجل الصالح بروح المصطفى صلى الله عليه وسلم في عالم المثال؛ في نوم حالَ تعطل الحواس الظاهرة، أو في يقظة حالَ ترويض هذه الحواس حتى تنقاد إلى مقتضيات الروح، فتفنى الشهوات، وتسمو الغرائز( 43))).اهـ. ثم استطرد الشيخ الحفيان -رحمه الله- ليبرهن على ما قال، مستشهداً بحديث: ((من رآني في المنام فسيراني في اليقظة))( 44). وحديث: ((من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي))( 45). ثم عرج الشيخ الحفيان على حديث المعراج( 46)، ليبرهن به على مظاهر طي المقامات للأولياء وصولاً ووصلاً بهم بحضرة النبوة؛ كما قال.

وهذا يتعارض مع تحريضه للباحثين في كتابه: (نظرات في التصوف الإسلامي)، حيث شجع الباحثين على دراسة إسناد السلسلة القادرية السمانية، وناشد أصحاب الجَلَد من الباحثين الصوفيين خاصة أن يقوموا بذلك. ومن منطلق قوله: (ذلك لأن الإسناد الحسي والمعنوي من الدين، ولا يؤذن بطي الإسناد في عالم الخلق -بعد الرسالة الخاتمة- إلا للمهدي عليه السلام، أو عيسى عليه السلام، وسواهما إذا طوى الإسناد مخبرا عن علو مكانته في عالم الأمر تحدثا بنعمة الله فإنه يلزمه ألا يكون حلقة في سند من يليه، خشية الانقطاع(47 )).اهـ.

ويفهم من كلام الشيخ الحفيان أنه أتى بمنهج لم يكن معروفاً لدى الصوفية الأوائل، وتابعه على ذلك الشيخ عبد الجبار المبارك(48 ) -رحمه الله- فهو من أشهر تلامذة الحفيان، وابن بنت عمه وختنه، وقال ذلك في كلامه عن (حضرة الديوان)، في كتابه الذي ترجم فيه جده الأستاذ الشيخ عبد المحمود ولد نور الدائم -رحمه الله- معلقاً على كلام جدهما الأستاذ الشيخ أحمد الطيب بن البشير، فقال: (ماذا نقول؟!! دار ما سبق من كلام عن الحضرة النبوية! والحضرة النبوية من المصطلحات الخاصة بالبيئة الصوفية( 49)، وذلك بمفهوم هذه الحضرة الخاص بهم، حيث لا تجد هذا المصطلح عند علماء القرآن، ولا عند علماء الحديث، ولا علماء العقيدة، ولا علماء أصول الفقه، كما لا تجدها عند علماء الخلاف الفقهي، على تنوع مذاهبه، وتعددها).اهـ.

وكأني بالشيخ عبد الجبار قد احتار في فهم كلام جده -الشيخ أحمد الطيب، وهو كلام لم يكن معروفاً لدى الصوفية السابقين أيضاً- فكان من الأحرى بالشيخ عبد الجبار أن يضمهم لفئات العلماء الذين ذكر أنهم لا يعرفون هذا المصلح- فعلق على ذلك بقوله: (ماذا نقول؟!)، ولكنه لما اشتدت به الحيرة –لانعدام مرجعية سابقة لهذا القول في الأوائل- اجتهد في توجيهه على نحو يخالف منهج الصوفية في القرون الفاضلة!

فأقول -وبالله التوفيق-: والله لو كان الأمر معروفاً عند الصوفية الأوائل -وهم أهل القرون الفاضلة -وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم، بهذه الأفضلية- لما تجاسرتُ على رد كلامهم، أما أن يجهلوا هُمْ أمراً في الدين، ونعلمُه نحنُ المتأخرون! فهذا لعمرُ الله ما لا نقبله لأنفسنا، ولا نقبله من أحدٍ كائناً من كان!

ولكن يبدو أن الشيخ عبد الجبار قد احتاط لهذا الاعتراض، فقال مستدركاً: ((والديوان في منهج العرفان الصوفي؛ مصطلحٌ له مفهومٌ تفردت به الطرق الصوفية، كطور متأخر من أطوار المنهج الصوفي، حيث لم يعرف هذا المصطلح (الديوان) بدلالته المعهودة في بيئة الطرق( 50) الصوفية، عند كبار رجال المنهج الصوفي في بواكيره، خلال القرون الثلاثة الفاضلة، كما أنه مصطلح لا تعرفه العلوم الشرعية على تنوعها، وتعددها بالمفهوم الذي تعرفه الطرق الصوفية))( 51).اهـ.

وهذا اعترافٌ واضحٌ من الشيخين: (الحفيان) و(عبد الجبار) بحداثة هذا المفهوم، وأن الأقدمين من الصوفية يجهلون هذا المفهوم، فإن كانا يقصدان أن الطرق الصوفية المتأخرة قد أحرزت سبقاً علمياً بهذه المعرفة فإننا بعرض قوليهما على قول أبي سليمان الداراني، وعلى قول أبي القاسم الجنيد -رحمهما الله- ندرك مدى خطورة هذا السبق غير المعتبر، ونعرف الفرق بين الاتجاهين، ونعرف المنهج السليم عند الأوائل، إذ لا سبقَ علمي في علوم الدين، لأنها لا تخضع للتجريب، ولأنها مرتبطة بمنهج التلقي المعروف، الذي ضمن لهذه الأمة تميزَها على سائر الأمم بكون الله تعالى قد اختصها بدين محفوظ من التحريف والتبديل فقد قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فكان من تسخير الله -جل وعلا- لعلماء هذه الأمة أن عملوا على رسم قواعد وضوابط لتلقي العلم؛ مستمدة من القرآن العظيم والسنة المطهرة، فكان ذلك أقوى ضمان لحفظ هذا الدين، وهم في هذه الخدمة يتلذذون، ويجدون من المعاني ما لا يجده أهل الدعاوى في الأحوال، من الذين رد عليهم الإمام الزاهد والصوفي الكبير سهل التستري رحمه الله(52 ).

وأما هذا الذي قاله الشيخ الحفيان في مسألة رؤية المسلم للنبي -صلى الله عليه وسلم، في اليقظة، وهو ما وافق فيه التيجانية في قولهم بتلقي أبي العباس التيجاني لصلاة الفاتح من النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة- فيقع ضمن خلافٍ قديمٍ تناوله العلماء السابقون، وشمر له الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- عن ساعد فتي فلمَّ شارده، وتكلم عليه بالشرح الموعب، وذكر اختلاف الرواة في اللفظ نفسه، فضلاً عن معناه، فقال -رحمه الله-: (قوله: "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة" زاد مسلم من هذا الوجه: أو فكأنما رآني في اليقظة. هكذا بالشك، ووقع عند الإسماعيلي في الطريق المذكورة: فقد رآني في اليقظة. بدل قوله: فسيراني. ومثله في حديث ابن مسعود، عند ابن ماجة، وصححه الترمذي، وأبو عوانة، ووقع عند ابن ماجة، من حديث أبي جحيفة: فكأنما رآني في اليقظة. فهذه ثلاثة ألفاظ: (فسيراني في اليقظة)... (فكأنما رآني في اليقظة)... (فقد رآني في اليقظة)... وجل أحاديث الباب كالثالثة، إلا قوله: في اليقظة).اهـ. قلت: الثالثة هي: (فقد رآني في اليقظة)، واستثنى منها لفظ: (في اليقظة)!

ثم قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (وحمله ابن أبي جمرة على محمل آخر، فذكر عن ابن عباس -أو غيره- أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فبقي بعد أن استيقظ متفكرا في هذا الحديث، فدخل على بعض أمهات المؤمنين؛ ولعلها خالته ميمونة، فأخرجت له المرآة التي كانت للنبي صلى الله عليه وسلم، فنظر فيها فرأى صورة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ير صورة نفسه. ونقل عن جماعةٍ من الصالحين أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ثم رأوه بعد ذلك في اليقظة، وسألوه عن أشياء كانوا منها متخوفين، فأرشدهم إلى طريق تفريجها، فجاء الأمر كذلك.انتهى.

وعقَّب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: (قلت: وهذا مشكلٌ جداً، ولو حُمل على ظاهره لكان هؤلاء صحابة، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة، ويعكِّر عليه أن جمعاً جماً رأوه في المنام، ثم لم يذكر واحدٌ منهم أنه رآه في اليقظة، وخبر الصادق لا يتخلف).انتهى تعقيب الحافظ ابن حجر.

وبعد ذلك استمر الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في شرح هذه الألفاظ، وأطنب في ذلك إطناباً ممتعاً، خلص فيه إلى أن حاصل تأويلات العلماء لحديث رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم، على تعدد ألفاظ الرواية- تنحصر في ستة أوجه:-

أحدها: أنه على التشبيه والتمثيل، ودل عليه قوله في الرواية الأخرى: فكأنما رآني في اليقظة.

ثانيها: أن معناها سيَرى في اليقظة تأويلَها بطريق الحقيقة أو التعبير.

ثالثها: أنه خاص بأهل عصره ممن آمن به قبل أن يراه.

رابعها: أنه يراه في المرآة التي كانت له صلى الله عليه وسلم إن أمكنه ذلك، وهذا من أبعد المحامل.

خامسها: أنه يراه يوم القيامة بمزيد خصوصية، لا مطلق من يراه حينئذ ممن لم يره في المنام.

سادسها: أنه يراه في الدنيا حقيقة ويخاطبه. وفيه ما تقدم من الإشكال.

واسترسل الحافظ ابنُ حجر العسقلاني في الكلام على هذه الألفاظ بما يستدل به على أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ليست مقصورة على طائفة من الناس، دون غيرها من طوائف المسلمين، وإنما هي لكل من صدق في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافة، وكلامُه المتقدم في ذكر الإشكال المترتب على مسألة رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة يقفل الباب على المتوسع في هذا الأمر، ويرد طالب الحق إلى الحق، إلا من أبى( 54).

وقد وقفت على كلام للعلامة المفسر الشيخ محمود الألوسي –رحمه الله- صاحب تفسير روح المعاني، في تفسير قوله تبارك وتعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]، ذكر فيه فوائد نفيسة عن حياة الأنبياء -صلوات ربي وسلامه عليهم- في قبورهم، ثم قال عقب ذلك: (ثم إني أقول بعد هذا كله: إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعد وفاته، وسؤاله والأخذ عنه، لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- من حين توفي عليه الصلاة والسلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية، وأمور دنيوية، وفيهم أبوبكر، وعلي -رضي الله تعالى عنهما-، وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية، ولم يبلغنا أن أحداً منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه -صلى الله تعالى عليه وسلم- ظهر لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام، فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال في بعض الأمور: (ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسلام عنه)( 55). ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه -صلى الله تعالى عليه وسلم- بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفتَ على اختلافهم في حكم الجد مع الإخوة، فهل وقفتَ على أن أحداً منهم ظهر له الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرشده إلى ما هو الحق فيه؟ وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم، بعد وفاته -صلى الله تعالى عليه وسلم-، وما جرى لها في أمر فدك، فهل بلغك أنه -عليه الصلاة والسلام- ظهر لها كما يظهر للصوفية فَبَلَّ لوعتها، وهوَّن حزنها، وبيَّن الحال لها؟ وقد سمعتَ بذهاب عائشة -رضي الله تعالى عنها- إلى البصرة، وما كان من وقعة الجمل، فهل سمعت تعرضه صلى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب، وصده إياها عن ذلك، لئلا يقع؟ أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه؟ إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره -عليه الصلاة والسلام- لأحد من أصحابه، وأهل بيته، وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك. وظهوره عند باب مسجد قباء -كما يحكيه بعض الشيعة- افتراء محض، وبهت بحت. وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام).اهـ.

ثم حاول العلامة الألوسي -رحمه الله، وهو من علماء الصوفية المتأخرين- أن يوفق بين ما ذكره بعض الصالحين من رؤيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وبين ما أورده من حجج متقدمة، فذكر توجيهاً لطيفاً لم يظهر له -وهو قائله- أن فيه مقنعاً لذوي الأفهام، فقال عقب ذلك التوجيه: (فإن قُبِلَ قولي وتوجيهي لذلك الأمـر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فأطلب لك ما يحله، والله سبحانه الموفق للصواب).اهـ.

ولو أننا وضعنا هذه المسألة التي نسبت لأولئك الأكابر من متأخري الصوفية- في ميزان الإسناد، وطالبنا القائلين بها أن يسندوها إلى أولئك الأكابر بإسناد على الشروط التي وضعها أئمة المسلمين لما قدروا أن يسندوها، وهي مسألة تذكرني بما ذكره القاضي عياض -رحمه الله، في ترتيب المدارك له، في ترجمة الإمام سحنون بن سعيد التنوخي -رحمه الله(56 )- من طريق المالكي، عن الجزري، قال: بينما أنا عند سحنون، إذ أتاه رجل، فسأله عن مسألتين أو ثلاثة( 57)، ثم قال: ما اليوم وما غد وما بعد غد؟ فقال له سحنون مجيباً: اليوم عمل، وغداً حساب، وما بعد غد جزاء. فلما ولَّى تبعته، حتى دخل المقبرة. فلما خفت فواته، قلت له: بالله قف لي، فقال: ما تريد؟ أنا رجل من الجانّ، كنت أغشى مجلس أبي سعيد(58 )، أسأله عن مسائل، فقد حرمتني المسائل، ثم غاب عني، فخطر لي الخروج إلى الحج، فبينا أنا في الطواف إذ [جبذ]( 59) بثوبي من ورائي، فالتفتُ فإذا بالجنيّ، فسلم عليّ وأخبرني بخبر من خلفته. ثم قال لي: رأيت الطلبة، يختلفون إلى شيخ، فمضيت إلى الرجل معه، فلما أشرفنا على الجماعة، [جبذني](60 ) الجني بثوبي، وقد تغير لونه، وقال لي: هذا إبليس، والله لو رآني لقتلني. قلت له: فما العمل؟ قال: ارجع فالطمه للرأس، وقل له: يا لعين، يا ملعون، إيش أتى بك ها هنا؟ ففعلت. فاضمحل حتى صار مثل الدخان وأخبرت الطلبة بالقصة، فعجبوا وخرقوا ما كتبوا عنه. وحكى ابن اللباد هذه الحكاية وزاد في أولها: كان فتى يغشى مجلس سحنون، ذا سكينة وصمت، لا يتكلم. فإذا كان آخر المجلس، سأله عن ثلاث مسائل أو أربعة(61 ) أو نحوها. ويستغرب لا يعرفه( 62) أحد من الطلبة، فشغل أحد الطلبة نفسه به، وأتبعه حتى خرج، وذكر الحكاية، وفيها زيادة ألفاظ، وفيها: وها هنا قوم من صالحي الجن فهم يرسلونني أسأل عنهم، عن دينهم وما يحتاجون إليه. فقد قطعت حظهم من ذلك. وفيها أنه أخبره حين لقيه في الطواف بحال أهله، وولده. وقال له: عهدي بهم بالأمس. فقال له: ها هنا شيطان قد تمثل في صورة شيخ، وحوله جمع يكتبون عنه، فإذا جئته فلا تهبه، وارفع العصا عليه. وذكر تمام الخبر بمعناه(63 ).

وهذا الذي ذكره القاضي عياض يؤيده ما رواه الإمام مسلم في مقدمة الصحيح، في باب النهي عن الرواية عن الضعفاء، والاحتياط في تحملها، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم، ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم)). وأخرج في نفس الموضع، عن عبد الله -رضي الله عنه-( 64): (إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث). وأخرج أيضا في الموضع نفسه، عن عبد الله بن عمرو – بالواو بعد الراء- رضي الله عنهما، أنه قال: (إن في البحر شياطين مسجونة؛ أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا).

ويؤيده ما أخرجه الإمام البخاري رحمه الله، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت:لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني، فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله شكا حاجة شديدة، وعيالا، فرحمته،فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فرصدته الثالثة
ربيع الانس
ربيع الانس

عدد المساهمات : 340

https://tiaret.ahlamontada.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى