الرد السهل على أهل العذر بالجهل
صفحة 1 من اصل 1
الرد السهل على أهل العذر بالجهل
الرد السهل على أهل العذر بالجهل
الكاتب : محمد سالم بن محمد الأمين المجلسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
هذا وقد شاعت قاعدة العذر بالجهل مطلقا إلى حد كبير، وتبناها علماء القصور ومن تبعهم وبنوا عليها قواعد خطيرة، واشترطوا في إقامة الحجة شروطا لا سبيل إلى تحقيقها. فتطرفوا وأبعدوا النُّجعة، فعذروا المعطِّلين لشرع الله الموالين لليهود والنصارى من دون المؤمنين، والجنود المقاتلين في سبيل الطاغوت بجهلهم. فوقع الخلل في مسائل الكفر والإيمان ووجد الضالون سبيلا إلى الطغيان ونبذ الجهاد وتعطيل حدود الله الواحد القهار.
وهنا تحترق الأحشاء وتنفطر الأكباد وتتقطع الأجساد وتفيض المآقي وتسكب العبرات، وقد قال بعض الدعاة عندنا: إن قال واحد منا: الله اثنان لا يعذر بجهله لأن كل الناس هنا يعلمون أن الله واحد. أما إذا قالها أحد في الصين يعذر لجهله ولفقد مظنة العلم، فما معنى لا إله إلا الله عند من يقول إن الله اثنان ؟ وما الذي يدفع إلى إعذاره وقد ناقض كلمة التوحيد في أسمى معانيها؟
إنك تعجب أخي القارئ إذا علمت أن ذلك القول لأحد المنتسبين لما كان عليه السلف الصالح، لقد قلبت المفاهيم ووقع الخلل في مسائل الكفر والإيمان، وعندما ندرك أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولا موالاتهم ولا مناكحتهم ولا الصلاة خلفهم أو عليهم ولا أكل ذبائحهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين تظهر لنا أهمية هذا الموضوع، وهو موضوع يحتاج إلى تأمل فتأمل.
قال تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] فقد أخبر الله تعالى أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن الجهل لا يغني مع صحة القول شيئا.
ويبين ذلك قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19] فهذا يبين أن العلم شرط في تحقيق شهادة الحق لا إله إلا الله وهذا يهدم بجلاء القول بالعذر بالجهل.
ولما دعي المشركون إلى التوحيد حكى الله عنهم قولهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فأدركوا معنى كلمة التوحيد وشهادة الحق ولكنهم لم يستجيبوا، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يعذر القبوريون الذين قالوا كلمة التوحيد ثم نقضوها جهلا بالاستغاثة بالموتى والذبح عند قبورهم وغير ذلك من النواقض؟ وكيف يعذر المحكمون للطاغوت الموالون للكفار المحاربون للدعاة إلى الخير؟
إذا كان أهل العذر بالجهل يقولون إن العلم شرط في التوحيد فكيف يعذرون جاهل التوحيد ويحكمون له به، وإذا لم يشترطوا في التوحيد العلم به فهم دعاة للجهل والضلال.
إن الناس في غفلة ما داموا بعيدين عن الوحي فمن لم يبلغه الوحي فهو غافل، يقول تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف:3] فمن لم تبلغه الرسالة فهو في غفلة وليس له عذر في ذلك لأن الله أخذ عليه العهد والميثاق بالتوحيد حتى لا يعتذر بالغفلة أو تقليد الآباء، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف:172- 174].
فالغفلة والجهل والتقليد ليست أعذارا مقبولة، ولا يُعذر في الكفر إلا المكره المطمئن قلبه بالإيمان قال تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[النحل:106- 108]، فكل من وقع في الكفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا وهو من الغافلين، فلا ريب أن هذه الغفلة التي منها الجهل تؤدي بصاحبها إلى الشرك فكيف يُعذر بها وهي المؤدية إلى الشرك.
واعلموا أن الجاهلين لم يُكرَهوا فقد فطرهم الله على الإيمان ورزقهم العقول ونصب لهم الأدلة الواضحة والآيات الدالة على وحدانيته فهم غافلون ما لم يوحدوا الله، وغافلون ما لم يأتهم رسول من عند الله، ولا تزول تلك الغفلة إلا بالإيمان والتوحيد.
وتأمل قوله تعالى: { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [الأنعام:131]، فلم يصبهم الهلاك في الدنيا لغياب الرسالة ومع ذلك فهم غافلون كما في قوله تعالى: { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس:6].
فهؤلاء الذين لم يُنذروا لم يُعذروا بجهلهم وغفلتهم فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس: ( أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار فلما قفَّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويُطعم المسكين فهل ذاك نافعه ؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوما ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين) رواه مسلم.
وروى أحمد أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدم عليه وفد بني المنتفق: ( يا رسول الله هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار (قالها للسائل )، فقال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: فلكأنه وقع حرّ بين جلدي ووجهى ولحمى مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ثم إذا الأخرى أجمل فقلت يا رسول الله وأهلك قال: وأهلي لعمر الله ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار)[1].
فانظر إلى هؤلاء الغافلين الذين لم يُنذروا ومع ذلك لم يُعذروا بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في النار فكيف يُعذر قوم بلغهم القرآن ولم يزالوا جاهلين غافلين متلبِّسين بالشرك. ولنتأمل في هذا الموضوع كتاب الله.
يقول جل من قائل: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر:64- 66]، فصرف العبادة أو بعضها لغير الله هو الشرك بعينه، والأمر بذلك شرك، ومع ذلك وصف هؤلاء الجاهلون بالمشركين، ولم يُعذروا بجهلهم، وهذا من أقوى الأدلة في المسألة حيث ذكر الله حبوط العمل بالشرك الذي أمر به أولئك الجاهلون الذين { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأنعام: 67 ].
ويقول تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [الأنعام: 148] فهؤلاء سماهم الله تعالى مشركين ولم يكن عندهم من علم وإنما كانوا يتبعون الظن ولم يُعذروا بذلك، } قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأنعام:149].
وهذا يبين لنا أن الحجة قد تقام على الشخص ويبقى رغم ذلك على جهله فهل يعذر أم أنه ما دام جاهلا لم تُقم عليه الحجة فلا بد من علمه وعناده، فإن قالوا لا يُعذر فما الفرق بين الحالتين وسبب العذر لا يزال موجودا ألا وهو الجهل، وإن قالوا يُعذر فما المترتب على إقامة الحجة عليه والحكم لم يتغير، وهذا يبين لك أن وصف الشرك أو الكفر يثبت قبل قيام الحجة.
إنه لا خلاف في إقامة الحجة على غير المحارب وإنما يخالف أهل العذر في ثبوت وصف الشرك أو الكفر قبل قيام الحجة على صاحبه فيفرقون بين وقوع الشخص في الكفر ووقوع الكفر عليه، وبين من كفر ومن عمل عملا يدل على الكفر وبين من كفر ومن قامت به صفة مكفِّرة ويبالغون في التحذير من التكفير والتذكير بموانعه وضرب الأمثال والاحتمالات مما يجعل كثيرا منهم إلى الإرجاء أقرب نسأل الله الهداية.
إن في هذه الأمور تفصيلا مهما، نعم ولكن أكثرهم لا يفصِّلون.
ويقول تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }[التوبة:31]، ألا ترى إلى هؤلاء المقلدين الذين قلدوا أحبارهم فوقعوا في الشرك وهم مقلدون جاهلون لم يعذروا بذلك، وهذا عدي بن حاتم كان يجهل أن ذلك الانقياد والاستسلام للعلماء في التحليل والتحريم هو نوع من العبادة لهم، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة ووجده يقرأ هذه الآية: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ } قال: إنهم لم يعبدوهم ، فقال صلى الله عليه وسلم: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم، فأسلم رضي الله عنه، روى حديثَه أحمد والترمذي وابن جرير، وجاء عن حذيفة وابن عباس في تفسير الآية أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا كما ذكر ابن كثير.
وجاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [2]، فهؤلاء قوم أفتوا بجهل فضلوا وأضلوا مقلديهم الجاهلين فلم يُعذروا بجهلهم ولم يمنعهم جهلهم من أن يوصفوا بالضالين، وهذا في قوم الأصل فيهم الإسلام حتى لا يقال إن ما مضى في قوم الأصل فيهم الشرك.
واعلموا رعاكم الله أن المقلد جاهل، فهل يُعذر بذلك وآفة التقليد أصل في الوقوع في الشرك، وقد قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة:104 ]، فتأمل قوله: لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا فأجهل الناس من يقلد الجهال، ووقع ذلك للمشركين كثيرا قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[الأنبياء:51- 54].
وانظر كيف ذكر أن آباءهم كانوا في ضلال مبين مع أنه لم يُقم الحجة عليهم، وسواء كان هذا في الشرك أو البدع والمخالفات فالجهل والتقليد ليسا بعذر، وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) [3].
فهؤلاء رغم جهلهم حَمَلوا الأوزار لما قلدوا من دعاهم إلى الضلال وهم لا يدرون أنه ضلال، فلم يُعذروا بذلك، وقال تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [النعام:140] وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }[النحل:24- 25] والمتأمل يُدرك أن هذا يخصص عموم قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [التوبة:115].
وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[لقمان:6]، فهؤلاء أناس يُضلون عن سبيل الله بغير علم أي على جهل منهم ولم يعذرهم الله تعالى بل أعدَّ لهم عذابا مهينا، وإن كان يذكر لنزول الآية سبب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإن من أعجب العجب ألا يسمى بعضهم المشركين مشركين بحجة أنهم لم تبلغهم الرسالة أو لم تقم عليهم الحجة وقد قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [التوبة:6]، فقد سماهم مشركين قبل أن يسمعوا كلام الله وهم جاهلون، وكذلك في قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }[البينة:1]، فسماهم الله مشركين قبل إتيان البينة.
وذكر الله أن فرعون طغى قبل أن يرسل إليه موسى فقال تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [طه:24]، وقال: { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [طه:39]، وهذا قبل الرسالة، ففرعون سماه اله عدوا قبل أن تأتيه الرسالة، وقال تعالى: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الشعراء:10]، فسماهم الله ظالمين قبل أن يأتيهم موسى رسولا.
وقد سمى الله تعالى فعل المشركين فاحشة قبل قيام الحجة ولم يعذرهم بجهلهم وتقليدهم لآبائهم حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة فردَّ الله عليهم سفههم وجهالتهم تلك وسمى فعلهم فاحشة في قوله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:28]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [البقرة:198] فسمهم الله ضالين قبل الهداية ومجيء الرسالة، هذا كله يدلك على أن اسم المشرك يثبت قبل الرسالة لمن لم يحقق التوحيد.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة:11- 13]، فانظر إلى هؤلاء المنافقين الذين لم يحققوا الإيمان بل يصفون المؤمنين بالسفهاء ويجهلون أنهم هم السفهاء ولم يعذروا بجهلهم، وكذلك يفسدون في الأرض بل يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون فلم يُعذروا بعدم شعورهم، وقد أحسن ابن جرير الكلام عند تفسير هذه الآية في الرد على القائلين بأن الكفر لا يكون إلا بالعناد، ونقله عنه ابن كثير وأقرَّه.
وقد يقول بعضهم هذا في الكفار أو المنافقين الأصليين كما هي عادتهم فيرد عليه بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2]، ومعلوم أن الأعمال لا تحبط بالجملة إلا بالكفر، { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5]، أو بالشرك، { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65]، فظهر بجلاء أن الجاهل قد يقع في الشرك وهو لا يشعر فيشرك بالله ويحبط عمله.
بل إنه قد يظن أنه على سبيل الرشاد لجهله ولا يُعذر بذلك قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }[الكهف:103- 104] وقال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [المجادلة:18]، وقال تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }[الأعراف:30].
وفي حديث بني المنتفق الذي مرَّ ذكره وفيه أن من مات قبل بعثته على الشرك في النار قيل يا رسول الله ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يُحسنون إلا إياه، وقد كانوا يحسبون أنهم مصلحون، ولم يكن ذلك عذرا لهم، فكيف يُعذر من بلغه القرآن ولم يزل متلبسا بالشرك فهؤلاء جهلهم جهل إعراض عن تدبُّر القرآن والعمل به، وهو جهل تقليد وانقياد للأحبار.
وكم من جاهل أن قولا ما أو عملا ما مكفِّر كُفِّر بما قال أو عمل من ذلك ولم يُعذر ومما يوضح ذلك قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.. }[التوبة:65- 66]، فهؤلاء يجهلون أن عملهم ذلك مكفر، فلم ينفعهم جهلهم وتأويلهم فالجد والهزل والجهل في الكفر سواء، وهذا في قوم الأصل فيهم الإيمان، وكذلك قوم نوح الأصل فيهم الإيمان عبدوا الأصنام لجهلهم.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما :في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }[نوح:23] قال: أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ،يقول ابن عباس: حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت[4].
وجاءت الآثار أن إبليس قال لهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدوها، رواه عبد بن حميد. فهؤلاء ما عبدوها إلا لجهلهم لأن العلم آنذاك تنسَّخ وانقرض كما قال ابن عباس، فما دخل الشرك على الناس إلا حين عمَّ الجهل فكيف يمكن أن نتصور الجهل عذرا لا يمكن ثبوت وصف الشرك معه، هذا والله عجب.
يقول تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل:119] فقد سمى الله تعالى عملهم بالسوء، وذكر أنهم عملوه بجهالة، فلم تتغير صفة العمل رغم الجهالة فالسوء هو السوء عملوه بعلم أو جهالة، والشرك هو الشرك، والمشرك الذي قال أو فعل الشرك هو المشرك عالما بشركه كان أو جاهلا، فيوصف بالمشرك وقد عمل بجهالة كما وصف شركه بالشرك وهو معمول بجهالة.
إنه من الغريب أن يسأل سائل عن الاستغفار لأبيه الذي نطق بالشهادتين وحفظ القرآن وأدى فرائض الإسلام ومات على الاستغاثة بالموتى والذبح عند قبورهم وتعليق التمائم فيقول له مفتيه: هل أقمت عليه الحجة فيقول لا، فيقول: استغفر له فإنه كان جاهلا، وعندما ندرك أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولا مناكحتهم ولا الصلاة خلفهم أو عليهم ولا أكل ذبائحهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين تظهر لنا أهمية هذا الموضوع.
فكثير من الذين يعذرون بالجهل يرون جواز ذلك لأنهم لا يرونهم مشركين وإن فعلوا الشرك أو قالوا كلمة الكفر فهم يعذرونهم بجهلهم. وعندهم على ذلك بعض الشبهات :
منها قصة ذات أنواط فعن أبي واقد الليثي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنوط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم). رواه الترمذي[5]، فإذا تأملنا سنجد أن هؤلاء حديثو عهد بالإسلام وإنما أرادوا التشبه بالمشركين في هذه المسألة بالذات، يريدون شجرة يكعفون عليها ويعلقون بها أسلحتهم، فقد تقع المشابهة للمشركين في بعض الصفات ولا يقتضي ذلك التشبه بهم ويبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم )، فليس اتخاذهم لذات أنواط هو اتخاذهم لآلهة من دون الله بنفسه ولكنه يشبهه، وقال هذا المحققون كالشاطبي وابن تيمية وغيرهما.
ثم نقول: من الذي يظن أن الصحابة الكرام يريدون آلهة مع الله وقد علموا أن ذلك ينافي شهادة الحق بل علمه المشركون كما قال تعالى عنهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ص:5]، فكيف يعلمه المشركون ويجهله الصحابة حتى يُعذروا بجهلهم والقرآن بلسانهم وهم يعلمونه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[فصلت:3]، فحديث ذات أنواط هو في التغليظ في التشبه بالكافرين في مظهر من مظاهرهم.
أما حديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي لم يعمل حسنة قط وقال إنه لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم به من ذر جسده في البر والبحر بعد حرقه فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا ؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له)، والحديث متفق عليه.
فنقول: أولا من أين لنا أن نصف هذا الرجل الذي حقق ثمرة العلم وهي الخشية بالجاهل، والله تعالى يقول {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر:28]، فقبل أن يعذره هؤلاء بالجهل لمَ لا نشفع له بالإيمان حيث حقق الخشية قال تعالى: {فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ }[التوبة:13]، فالخشية علامة العلم والإيمان، وصاحبها أبعد ما يكون من الكفر والجهل، أما الكافر فإننا لا نتوقع منه خشية الله وهو يجهل التوحيد بخلاف الرجل الذي حقق التوحيد بدليل ما رواه أحمد أنه لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، فخرج الحديث عن محل النزاع لأن الرجل كان موحدا وكلامنا عن جاهل التوحيد.
وما قاله بعضهم من أن الرجل كان يشكُّ في قدرة الله ليس مسَلَّما لما في رواية مسلم التي فيها قوله: ( وإن الله يقدر على أن يُعذبَني )، وقيل: إنما شك في القدرة على الممتنعات أي في قدرة الله على كل شيء، قالوا: فتلك الصورة الدقيقة لجمعه هي التي شك فيها ولم يشك في أصل قدرة الله تعالى بدليل أنه أمر أهله بحرق جسده وذرّه في البر والبحر ولو كان جاهلا أو شاكا في قدرة الله مطلقا لما احتاج إلى ذلك، فكون الله على كل شيء قدير من العلم الذي قد لا يتبين لبعض من يؤمن بأصل قدرة الله قال تعالى في {الذي مر عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فهذا قال الله عنه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:259].
وقد قيل إن الرجل غير ضابط لكلامه وهو كقول الآخر: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ من شدة الفرح، فمن علم بالقرائن الصحيحة الواضحة أنه نسي أو أخطأ ولم يقصد ما قال أو فعل لا يكفر ولكن – اسمع - بالقرائن الصحيحة المقبولة الظاهرة، والأصل تكفير كل من قال كلمة الكفر أو فعل فعله، ولو كان الخطأ والنسيان محتملين حتى يتبين ذلك أو تقوم قرائن تبينه، إذ يكفي أن نبين أن القول كفر أو الفعل كذلك.
وقيل إن كلام الرجل ذلك من مجاز كلام العرب، مزج الشك باليقين كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]، فهي صورة الشك المقصود منها اليقين.
وقيل كان من أهل الفترة حيث يكفيه مجرد التوحيد إذ لم يأته شرع.
وقيل كان في زمن يجوز فيه العفو عن الكافر في شرعهم بخلاف شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل هي من قضايا الأعيان، إلى غير ذلك.
فلو كان من أصول العلماء إعذار جاهل التوحيد لقالوا: إن هذا الرجل جهل قدرة الله وعذر بجهله، ولما احتاجوا إلى التأويل الذي لا يخفى ذمه عندهم ولا يلجأون إليه إلا في حالة الضرورة.
وقيل أيضا إن هذا الرجل جهل صفة من الصفات وقد اختلف في تكفير جاهل الصفة، نعم ليس كل الصفات فإن من الصفات ما لا يصح التوحيد إلا يعلمه.
أما ما رواه ابن ماجه وغيره من سجود معاذ حين قدم من الشام للنبي صلى الله عليه وسلم فكان من قبيل سجود التحية ونهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا تفعل، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )[6] ثم اعلم أن معاذا هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لمناظرة أهل الكتاب ودعوتهم كما في الصحيحين فكيف يجهل التوحيد ويسجد لغير الله تعبدا.
وإذا راجعت التفاسير عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ..} [البقرة:34]، وقوله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا.. }[يوسف:100]، ستجد أن سجود التحية كان مشروعا إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، راجع القرطبي وابن كثير وفتح القدير للشوكاني.
واستدلوا كذلك بقصة الحواريِّين في قوله تعالى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء.. } [المائدة:112]، فزعموا أن القوم شكوا في قدرة الله وعذروا بجهلهم، ولم يعلموا أنه جاءت القراءة (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) بالتاء وفتح الباء قرأ بها الكسائي وابن عباس وعلي وعائشة وغيرهم، فتحمل عليها القراءة الأخرى التي هي عندئذ بمعنى هل يُجيبك ربُّك وهذا معلوم عند العرب.
ثم إن من العلماء من قال بتكفيرهم بذلك القول فاستتابهم نبيهم {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة:112] ذهب إليه ابن جرير الطبري. ثم تابوا واتقوا كما في قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ.. } [الصف:14]، والجمهور على أنهم لم يشُكُّوا في قدرة الله تعالى، وذكر البغوي ذلك عن الصحابة، عن علي وعائشة وابن عباس وغيرهم.
ومن شُبَههم الاستدلال بقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.. }[البقرة:286] وقوله: }وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ.. } [الأحزاب:5] وما في ذلك المعنى من أحاديث صحيحة معلومة في رفع الخطإ والنسيان، فقالوا: إن الجهل من الخطإ، وهذا القول ليس هذا محله لأنه في المؤمن العالم بالتوحيد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا في جاهل التوحيد الذي لم يحقق الإيمان، وقد مرَّ بنا قوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2] والمخطئ لم يشعر.
وعجيب ما استدل به البعض من قوله تعالى {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [يوسف:89] فقالوا إنهم عُذروا بجهلهم في قوله {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. }[يوسف:92]، ومع أنهم قيل أنهم كانوا صغارا كما قال القرطبي وغيره في قوله تعالى (جَاهِلُونَ) إلا أن الآية حجة عليهم لقوله تعالى عنهم {تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ }[يوسف:91] فاعترفوا بخطئهم ولو كانوا معذورين لما كانوا مخطئين، ويؤكد ذلك قوله تعالى عنهم {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ }[يوسف:97] فهذا يؤكد أنهم خاطئون وليسوا معذورين بجهلهم إن صح أنه جهل كما قال المحتجون، وعلى كل حال ليس هو جهلا بالتوحيد ولذلك استغفر لهم يعقوب ربَّه إنه هو الغفور الرحيم، واعلموا أن العفو ليس من باب العذر بالجهل.
ويحتجون كذلك بحَلِف عمر وبقول إبراهيم {هَذَا رَبِّي.. }[الأنعام:76] وغير ذلك، وضعفت والله مسألة يحتج لها بمثل هذا.
واعلموا أيها الإخوة الكرام أن هؤلاء يخلطون بين صفحه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن سبَّه أو فعل غير ذلك مما يوجب الكفر والقتل وبين العذر بالجهل، فالذين سبُّوا النبي صلى الله عليه وسلم أو انتقصوا منه في حياته ولم يأمر بقتلهم لم يعذرهم صلى الله عليه وسلم بالجهل، وإنما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم فله الحق في ذلك، وليس لنا ترك حقه صلى الله عليه وسلم، وقد استوفى العلماء ذلك كالقرطبي وابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر، والله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف:199] وقد نقل أبو بكر الفارسي الشافعي في كتابه "الإجماع" الإجماع على كفر من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم.
ونجدهم أيضا يخلطون بين الاستتابة والعذر بالجهل، فحيثما وجدوا استتابة قالوا هي عذر بالجهل وفقنا الله للصواب.
واعلموا أن الفقهاء لم يذكروا العذر بالجهل في باب الردة من تصانيفهم وإنما يذكرون الأقوال والأفعال التي يكفر صاحبُها ويقولون: إن من ارتكبها فهو مرتدّ ولا يستثنون الجاهل، بل إن بعضهم يقول بالتربص به أياما لعله يعلم بعد جهله، وهو ما يهدم القول بالعذر بالجهل، وهذا منهم إشارة إلى أن الردة تقع بالجهل، وقد أشار إلى ذلك أبو بكر بن العربي في كتاب "التوسط في أصول الدين".
وهذا المعنى معروف معلوم عند العلماء كالقاضي عياض في الشفاء إذ صرَّح بعدم العذر بالجهالة في التوحيد، وقال الشوكاني في الردة: "لا يعتبر في ثبوتها العلم" بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري أو فعل فعلا كفريا، وهذا كثير معلوم في مصنفات أهل العلم، بل نقل القرافي الإجماع على عدم العذر بالجهل في أصول الدين، وقال به الطبري وغيره، أو بعبارة المتأخرين: "لا يُعذر بالجهل في الشرك الأكبر".
وهنا أقول إنه ينبغي التفصيل بين الأمور التي يُعذر بجهلها حتى لا يقع الخلط. أما التوحيد وأصول الدين فهذا لا يُعذر جاهله مطلقا، لأن عبادة غير الله لا توجد إلا من كافر وإن صرّح بالإسلام، وأما ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالنص كالخبريات فلا يُكفَّر جاهله إلا بعد تعليمه إياه، فإن علمه وأنكره كفر وهذا كاستحلال المحرمات وجحد الواجبات.
فهذا النوع من الجهل ليس معذورا صاحبه على الإطلاق، بل يُعذر حيث لم توجد مظنة العلم، فإن وجدت مظنته وكان بالإمكان التعلم لم يُعذر، وأقيم عليه الحد فيما فيه حد، كما في قصة قدامة بن مظعون مع عمر بن الخطاب مع أنه كان متأولا، وهنا أيضا أقول: ليس التأويل على إطلاقه، وإلا فابن عربي والحلاج وغيرهما من أهل وحدة الوجود متأوِّلون، ومع ذلك كفار، إذ لا ينفع التأويل في أصول التوحيد التي لا يتحقق إلا بها، لأنها قطعية لا مجال للتأويل فيها.
هذا وقد اتفق العلماء على كفر من لم يوحد الله من أهل الفترة وإنما اختلفوا في اختباره يوم القيامة أو تعذيبه، فمن هنا ندرك أن احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15] خارج نطاق النزاع لأننا لا نتكلم عن التعذيب في الآخرة، وإنما عن التكفير في الدنيا مع أن العذاب في الآية دنيوي كما نسب القرطبي وغيره للجمهور.
وهنا أقول: إذا كان زيد بن عمرو بن نفيل موحِّدا كما في صحيح البخاري فماذا عن الذين لم يحققوا التوحيد في زمنه، وليس في مقابل التوحيد إلا الشرك والكفر.
هذا واعلموا يا إخوة الإيمان أن من عذر مستغيثا بغير الله يذبح عند قبور الأولياء والصالحين أثقلت كاهلَه التمائمُ كيف لا يعذر جنديا من جنود الطاغوت، وسيفا مُهَنَّدا على أولياء الله، وركيزة قوية لتدعيم حكم الطاغوت.
إنه لم يتلبس بشيء من تلك الشركيات التي تلبس بها ذلك القبوري، وإنما زعم أنه في جيش مسلم يقوده رئيس مسلم لدولة مسلمة، فإذا قلت له: تقاتل في سبيل الطاغوت، قال معاذ الله، بل أقاتل في سبيل الله، ولولا وجود جيشنا لما وجد أمن ولا استقرار بإذن الله بل كانت الفوضى وعمَّ الفساد، بل يقول إنه في ذلك المنصب لمصلحة الإسلام والمسلمين.
وإذا قلت له: إنه يُدافع عن حكم لا يحكم بشرع الله رأيته يجهل ذلك، فمن سار على درب هؤلاء الذين يعذرون بالجهل مَن وقع في الكفر، فسيعذر هؤلاء الطواغيت وكُبَراءَهم المعطلين لشرع الله، الموالين لليهود والنصارى الراكنين للذين ظلموا، الصادين عن سبيل الله بإشاعة الفحشاء والمنكر، المتشبهين بالكافرين في نظام حياتهم وحُكْمهم، نسأل الله الهداية والرشاد.
ألا تعلم أن جنود الطاغوت السعودي المحاربين للشباب المجاهدين والشيوخ المجاهدين بعلمهم المعتقلين، يظنون أنهم مجاهدون في سبيل الله، وأن أولئك الشباب ضالُّون وعلماءَهم مخطئون، كما أفتى بذلك العلماء عندهم، وهم أيضا عسكر يذبُّون عن الطاغوت بأقلامهم وألسنتهم ومكانتهم عند الناس.
وهذا باب يعطَّل من خلاله الجهاد في كثير من البلاد، كما يفعل إخواننا في أفغانستان والجزائر والعراق وغيرها من البلاد التي يقاتل المجاهدون فيها جنودا يوالون الطاغوت ويدَّعون الإسلام، وفي إعذارهم إحباط لهمم الشباب المعتزين بالإسلام الراغبين في نصرته، المتحمسين لنيل الشهادة في سبيل الله.
فنقول للذين يعذرون بالجهل في التوحيد ويطلقون في العذر فيما سواه ولا يقيدون: ابحثوا في الأدلة وتحرَّوا الصواب والرجوعَ إلى الحق، فإن كان ما سمعتم حقا فارجعوا إليه، وإن كان خلاف ذلك عندكم فلا أقل من أن تعذرونا وقوفا عند أصلكم وثباتا عليه حتى لا تتناقضوا فما قلنا إلا ما نعلم والله الموفق للصواب.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتِّباعَه وأرنا الباطل باطلا ولا تجعلنا أتباعه، واجعلنا هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
محمد سالم ولد محمد الأمين المجلسي
09/09/1426 هـ
الكاتب : محمد سالم بن محمد الأمين المجلسي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
هذا وقد شاعت قاعدة العذر بالجهل مطلقا إلى حد كبير، وتبناها علماء القصور ومن تبعهم وبنوا عليها قواعد خطيرة، واشترطوا في إقامة الحجة شروطا لا سبيل إلى تحقيقها. فتطرفوا وأبعدوا النُّجعة، فعذروا المعطِّلين لشرع الله الموالين لليهود والنصارى من دون المؤمنين، والجنود المقاتلين في سبيل الطاغوت بجهلهم. فوقع الخلل في مسائل الكفر والإيمان ووجد الضالون سبيلا إلى الطغيان ونبذ الجهاد وتعطيل حدود الله الواحد القهار.
وهنا تحترق الأحشاء وتنفطر الأكباد وتتقطع الأجساد وتفيض المآقي وتسكب العبرات، وقد قال بعض الدعاة عندنا: إن قال واحد منا: الله اثنان لا يعذر بجهله لأن كل الناس هنا يعلمون أن الله واحد. أما إذا قالها أحد في الصين يعذر لجهله ولفقد مظنة العلم، فما معنى لا إله إلا الله عند من يقول إن الله اثنان ؟ وما الذي يدفع إلى إعذاره وقد ناقض كلمة التوحيد في أسمى معانيها؟
إنك تعجب أخي القارئ إذا علمت أن ذلك القول لأحد المنتسبين لما كان عليه السلف الصالح، لقد قلبت المفاهيم ووقع الخلل في مسائل الكفر والإيمان، وعندما ندرك أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولا موالاتهم ولا مناكحتهم ولا الصلاة خلفهم أو عليهم ولا أكل ذبائحهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين تظهر لنا أهمية هذا الموضوع، وهو موضوع يحتاج إلى تأمل فتأمل.
قال تعالى: { وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] فقد أخبر الله تعالى أن الشهادة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن الجهل لا يغني مع صحة القول شيئا.
ويبين ذلك قوله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19] فهذا يبين أن العلم شرط في تحقيق شهادة الحق لا إله إلا الله وهذا يهدم بجلاء القول بالعذر بالجهل.
ولما دعي المشركون إلى التوحيد حكى الله عنهم قولهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، فأدركوا معنى كلمة التوحيد وشهادة الحق ولكنهم لم يستجيبوا، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يعذر القبوريون الذين قالوا كلمة التوحيد ثم نقضوها جهلا بالاستغاثة بالموتى والذبح عند قبورهم وغير ذلك من النواقض؟ وكيف يعذر المحكمون للطاغوت الموالون للكفار المحاربون للدعاة إلى الخير؟
إذا كان أهل العذر بالجهل يقولون إن العلم شرط في التوحيد فكيف يعذرون جاهل التوحيد ويحكمون له به، وإذا لم يشترطوا في التوحيد العلم به فهم دعاة للجهل والضلال.
إن الناس في غفلة ما داموا بعيدين عن الوحي فمن لم يبلغه الوحي فهو غافل، يقول تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } [يوسف:3] فمن لم تبلغه الرسالة فهو في غفلة وليس له عذر في ذلك لأن الله أخذ عليه العهد والميثاق بالتوحيد حتى لا يعتذر بالغفلة أو تقليد الآباء، قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف:172- 174].
فالغفلة والجهل والتقليد ليست أعذارا مقبولة، ولا يُعذر في الكفر إلا المكره المطمئن قلبه بالإيمان قال تعالى: { مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }[النحل:106- 108]، فكل من وقع في الكفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدرا وهو من الغافلين، فلا ريب أن هذه الغفلة التي منها الجهل تؤدي بصاحبها إلى الشرك فكيف يُعذر بها وهي المؤدية إلى الشرك.
واعلموا أن الجاهلين لم يُكرَهوا فقد فطرهم الله على الإيمان ورزقهم العقول ونصب لهم الأدلة الواضحة والآيات الدالة على وحدانيته فهم غافلون ما لم يوحدوا الله، وغافلون ما لم يأتهم رسول من عند الله، ولا تزول تلك الغفلة إلا بالإيمان والتوحيد.
وتأمل قوله تعالى: { ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } [الأنعام:131]، فلم يصبهم الهلاك في الدنيا لغياب الرسالة ومع ذلك فهم غافلون كما في قوله تعالى: { لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [يس:6].
فهؤلاء الذين لم يُنذروا لم يُعذروا بجهلهم وغفلتهم فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس: ( أن رجلا قال: يا رسول الله أين أبي ؟ قال: في النار فلما قفَّى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( قلت: يا رسول الله إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويُطعم المسكين فهل ذاك نافعه ؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوما ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين) رواه مسلم.
وروى أحمد أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدم عليه وفد بني المنتفق: ( يا رسول الله هل لأحد ممن مضى من خير في جاهليتهم فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار (قالها للسائل )، فقال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: فلكأنه وقع حرّ بين جلدي ووجهى ولحمى مما قال لأبي على رؤوس الناس، فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله ثم إذا الأخرى أجمل فقلت يا رسول الله وأهلك قال: وأهلي لعمر الله ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من مشرك فقل أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوءك تجر على وجهك وبطنك في النار)[1].
فانظر إلى هؤلاء الغافلين الذين لم يُنذروا ومع ذلك لم يُعذروا بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم في النار فكيف يُعذر قوم بلغهم القرآن ولم يزالوا جاهلين غافلين متلبِّسين بالشرك. ولنتأمل في هذا الموضوع كتاب الله.
يقول جل من قائل: { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ * وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الزمر:64- 66]، فصرف العبادة أو بعضها لغير الله هو الشرك بعينه، والأمر بذلك شرك، ومع ذلك وصف هؤلاء الجاهلون بالمشركين، ولم يُعذروا بجهلهم، وهذا من أقوى الأدلة في المسألة حيث ذكر الله حبوط العمل بالشرك الذي أمر به أولئك الجاهلون الذين { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الأنعام: 67 ].
ويقول تعالى: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } [الأنعام: 148] فهؤلاء سماهم الله تعالى مشركين ولم يكن عندهم من علم وإنما كانوا يتبعون الظن ولم يُعذروا بذلك، } قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }[الأنعام:149].
وهذا يبين لنا أن الحجة قد تقام على الشخص ويبقى رغم ذلك على جهله فهل يعذر أم أنه ما دام جاهلا لم تُقم عليه الحجة فلا بد من علمه وعناده، فإن قالوا لا يُعذر فما الفرق بين الحالتين وسبب العذر لا يزال موجودا ألا وهو الجهل، وإن قالوا يُعذر فما المترتب على إقامة الحجة عليه والحكم لم يتغير، وهذا يبين لك أن وصف الشرك أو الكفر يثبت قبل قيام الحجة.
إنه لا خلاف في إقامة الحجة على غير المحارب وإنما يخالف أهل العذر في ثبوت وصف الشرك أو الكفر قبل قيام الحجة على صاحبه فيفرقون بين وقوع الشخص في الكفر ووقوع الكفر عليه، وبين من كفر ومن عمل عملا يدل على الكفر وبين من كفر ومن قامت به صفة مكفِّرة ويبالغون في التحذير من التكفير والتذكير بموانعه وضرب الأمثال والاحتمالات مما يجعل كثيرا منهم إلى الإرجاء أقرب نسأل الله الهداية.
إن في هذه الأمور تفصيلا مهما، نعم ولكن أكثرهم لا يفصِّلون.
ويقول تعالى: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }[التوبة:31]، ألا ترى إلى هؤلاء المقلدين الذين قلدوا أحبارهم فوقعوا في الشرك وهم مقلدون جاهلون لم يعذروا بذلك، وهذا عدي بن حاتم كان يجهل أن ذلك الانقياد والاستسلام للعلماء في التحليل والتحريم هو نوع من العبادة لهم، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من فضة ووجده يقرأ هذه الآية: { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ } قال: إنهم لم يعبدوهم ، فقال صلى الله عليه وسلم: بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فتلك عبادتهم إياهم، فأسلم رضي الله عنه، روى حديثَه أحمد والترمذي وابن جرير، وجاء عن حذيفة وابن عباس في تفسير الآية أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا كما ذكر ابن كثير.
وجاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) [2]، فهؤلاء قوم أفتوا بجهل فضلوا وأضلوا مقلديهم الجاهلين فلم يُعذروا بجهلهم ولم يمنعهم جهلهم من أن يوصفوا بالضالين، وهذا في قوم الأصل فيهم الإسلام حتى لا يقال إن ما مضى في قوم الأصل فيهم الشرك.
واعلموا رعاكم الله أن المقلد جاهل، فهل يُعذر بذلك وآفة التقليد أصل في الوقوع في الشرك، وقد قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } [المائدة:104 ]، فتأمل قوله: لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا فأجهل الناس من يقلد الجهال، ووقع ذلك للمشركين كثيرا قال تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }[الأنبياء:51- 54].
وانظر كيف ذكر أن آباءهم كانوا في ضلال مبين مع أنه لم يُقم الحجة عليهم، وسواء كان هذا في الشرك أو البدع والمخالفات فالجهل والتقليد ليسا بعذر، وقد روى مسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) [3].
فهؤلاء رغم جهلهم حَمَلوا الأوزار لما قلدوا من دعاهم إلى الضلال وهم لا يدرون أنه ضلال، فلم يُعذروا بذلك، وقال تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [النعام:140] وقال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ }[النحل:24- 25] والمتأمل يُدرك أن هذا يخصص عموم قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } [التوبة:115].
وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }[لقمان:6]، فهؤلاء أناس يُضلون عن سبيل الله بغير علم أي على جهل منهم ولم يعذرهم الله تعالى بل أعدَّ لهم عذابا مهينا، وإن كان يذكر لنزول الآية سبب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وإن من أعجب العجب ألا يسمى بعضهم المشركين مشركين بحجة أنهم لم تبلغهم الرسالة أو لم تقم عليهم الحجة وقد قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } [التوبة:6]، فقد سماهم مشركين قبل أن يسمعوا كلام الله وهم جاهلون، وكذلك في قوله تعالى: { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ }[البينة:1]، فسماهم الله مشركين قبل إتيان البينة.
وذكر الله أن فرعون طغى قبل أن يرسل إليه موسى فقال تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [طه:24]، وقال: { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } [طه:39]، وهذا قبل الرسالة، ففرعون سماه اله عدوا قبل أن تأتيه الرسالة، وقال تعالى: { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الشعراء:10]، فسماهم الله ظالمين قبل أن يأتيهم موسى رسولا.
وقد سمى الله تعالى فعل المشركين فاحشة قبل قيام الحجة ولم يعذرهم بجهلهم وتقليدهم لآبائهم حيث كانوا يطوفون بالبيت عراة فردَّ الله عليهم سفههم وجهالتهم تلك وسمى فعلهم فاحشة في قوله تعالى: { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:28]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ } [البقرة:198] فسمهم الله ضالين قبل الهداية ومجيء الرسالة، هذا كله يدلك على أن اسم المشرك يثبت قبل الرسالة لمن لم يحقق التوحيد.
وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } [البقرة:11- 13]، فانظر إلى هؤلاء المنافقين الذين لم يحققوا الإيمان بل يصفون المؤمنين بالسفهاء ويجهلون أنهم هم السفهاء ولم يعذروا بجهلهم، وكذلك يفسدون في الأرض بل يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون فلم يُعذروا بعدم شعورهم، وقد أحسن ابن جرير الكلام عند تفسير هذه الآية في الرد على القائلين بأن الكفر لا يكون إلا بالعناد، ونقله عنه ابن كثير وأقرَّه.
وقد يقول بعضهم هذا في الكفار أو المنافقين الأصليين كما هي عادتهم فيرد عليه بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2]، ومعلوم أن الأعمال لا تحبط بالجملة إلا بالكفر، { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [المائدة:5]، أو بالشرك، { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65]، فظهر بجلاء أن الجاهل قد يقع في الشرك وهو لا يشعر فيشرك بالله ويحبط عمله.
بل إنه قد يظن أنه على سبيل الرشاد لجهله ولا يُعذر بذلك قال تعالى: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }[الكهف:103- 104] وقال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } [المجادلة:18]، وقال تعالى: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }[الأعراف:30].
وفي حديث بني المنتفق الذي مرَّ ذكره وفيه أن من مات قبل بعثته على الشرك في النار قيل يا رسول الله ما فعل بهم ذلك، وقد كانوا على عمل لا يُحسنون إلا إياه، وقد كانوا يحسبون أنهم مصلحون، ولم يكن ذلك عذرا لهم، فكيف يُعذر من بلغه القرآن ولم يزل متلبسا بالشرك فهؤلاء جهلهم جهل إعراض عن تدبُّر القرآن والعمل به، وهو جهل تقليد وانقياد للأحبار.
وكم من جاهل أن قولا ما أو عملا ما مكفِّر كُفِّر بما قال أو عمل من ذلك ولم يُعذر ومما يوضح ذلك قوله تعالى: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ.. }[التوبة:65- 66]، فهؤلاء يجهلون أن عملهم ذلك مكفر، فلم ينفعهم جهلهم وتأويلهم فالجد والهزل والجهل في الكفر سواء، وهذا في قوم الأصل فيهم الإيمان، وكذلك قوم نوح الأصل فيهم الإيمان عبدوا الأصنام لجهلهم.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما :في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }[نوح:23] قال: أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ،يقول ابن عباس: حتى إذا هلك أولئك وتنسَّخ العلم عُبدت[4].
وجاءت الآثار أن إبليس قال لهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدوها، رواه عبد بن حميد. فهؤلاء ما عبدوها إلا لجهلهم لأن العلم آنذاك تنسَّخ وانقرض كما قال ابن عباس، فما دخل الشرك على الناس إلا حين عمَّ الجهل فكيف يمكن أن نتصور الجهل عذرا لا يمكن ثبوت وصف الشرك معه، هذا والله عجب.
يقول تعالى: { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [النحل:119] فقد سمى الله تعالى عملهم بالسوء، وذكر أنهم عملوه بجهالة، فلم تتغير صفة العمل رغم الجهالة فالسوء هو السوء عملوه بعلم أو جهالة، والشرك هو الشرك، والمشرك الذي قال أو فعل الشرك هو المشرك عالما بشركه كان أو جاهلا، فيوصف بالمشرك وقد عمل بجهالة كما وصف شركه بالشرك وهو معمول بجهالة.
إنه من الغريب أن يسأل سائل عن الاستغفار لأبيه الذي نطق بالشهادتين وحفظ القرآن وأدى فرائض الإسلام ومات على الاستغاثة بالموتى والذبح عند قبورهم وتعليق التمائم فيقول له مفتيه: هل أقمت عليه الحجة فيقول لا، فيقول: استغفر له فإنه كان جاهلا، وعندما ندرك أنه لا يجوز الاستغفار للمشركين ولا مناكحتهم ولا الصلاة خلفهم أو عليهم ولا أكل ذبائحهم ولا دفنهم في مقابر المسلمين تظهر لنا أهمية هذا الموضوع.
فكثير من الذين يعذرون بالجهل يرون جواز ذلك لأنهم لا يرونهم مشركين وإن فعلوا الشرك أو قالوا كلمة الكفر فهم يعذرونهم بجهلهم. وعندهم على ذلك بعض الشبهات :
منها قصة ذات أنواط فعن أبي واقد الليثي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنوط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم). رواه الترمذي[5]، فإذا تأملنا سنجد أن هؤلاء حديثو عهد بالإسلام وإنما أرادوا التشبه بالمشركين في هذه المسألة بالذات، يريدون شجرة يكعفون عليها ويعلقون بها أسلحتهم، فقد تقع المشابهة للمشركين في بعض الصفات ولا يقتضي ذلك التشبه بهم ويبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( لتتبعن سنن من كان قبلكم )، فليس اتخاذهم لذات أنواط هو اتخاذهم لآلهة من دون الله بنفسه ولكنه يشبهه، وقال هذا المحققون كالشاطبي وابن تيمية وغيرهما.
ثم نقول: من الذي يظن أن الصحابة الكرام يريدون آلهة مع الله وقد علموا أن ذلك ينافي شهادة الحق بل علمه المشركون كما قال تعالى عنهم: { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا } [ص:5]، فكيف يعلمه المشركون ويجهله الصحابة حتى يُعذروا بجهلهم والقرآن بلسانهم وهم يعلمونه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }[فصلت:3]، فحديث ذات أنواط هو في التغليظ في التشبه بالكافرين في مظهر من مظاهرهم.
أما حديث أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي لم يعمل حسنة قط وقال إنه لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم به من ذر جسده في البر والبحر بعد حرقه فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال لم فعلت هذا ؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر الله له)، والحديث متفق عليه.
فنقول: أولا من أين لنا أن نصف هذا الرجل الذي حقق ثمرة العلم وهي الخشية بالجاهل، والله تعالى يقول {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } [فاطر:28]، فقبل أن يعذره هؤلاء بالجهل لمَ لا نشفع له بالإيمان حيث حقق الخشية قال تعالى: {فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ }[التوبة:13]، فالخشية علامة العلم والإيمان، وصاحبها أبعد ما يكون من الكفر والجهل، أما الكافر فإننا لا نتوقع منه خشية الله وهو يجهل التوحيد بخلاف الرجل الذي حقق التوحيد بدليل ما رواه أحمد أنه لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد، فخرج الحديث عن محل النزاع لأن الرجل كان موحدا وكلامنا عن جاهل التوحيد.
وما قاله بعضهم من أن الرجل كان يشكُّ في قدرة الله ليس مسَلَّما لما في رواية مسلم التي فيها قوله: ( وإن الله يقدر على أن يُعذبَني )، وقيل: إنما شك في القدرة على الممتنعات أي في قدرة الله على كل شيء، قالوا: فتلك الصورة الدقيقة لجمعه هي التي شك فيها ولم يشك في أصل قدرة الله تعالى بدليل أنه أمر أهله بحرق جسده وذرّه في البر والبحر ولو كان جاهلا أو شاكا في قدرة الله مطلقا لما احتاج إلى ذلك، فكون الله على كل شيء قدير من العلم الذي قد لا يتبين لبعض من يؤمن بأصل قدرة الله قال تعالى في {الذي مر عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هََذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فهذا قال الله عنه فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة:259].
وقد قيل إن الرجل غير ضابط لكلامه وهو كقول الآخر: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، ولكن بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخطأ من شدة الفرح، فمن علم بالقرائن الصحيحة الواضحة أنه نسي أو أخطأ ولم يقصد ما قال أو فعل لا يكفر ولكن – اسمع - بالقرائن الصحيحة المقبولة الظاهرة، والأصل تكفير كل من قال كلمة الكفر أو فعل فعله، ولو كان الخطأ والنسيان محتملين حتى يتبين ذلك أو تقوم قرائن تبينه، إذ يكفي أن نبين أن القول كفر أو الفعل كذلك.
وقيل إن كلام الرجل ذلك من مجاز كلام العرب، مزج الشك باليقين كما في قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [سبأ:24]، فهي صورة الشك المقصود منها اليقين.
وقيل كان من أهل الفترة حيث يكفيه مجرد التوحيد إذ لم يأته شرع.
وقيل كان في زمن يجوز فيه العفو عن الكافر في شرعهم بخلاف شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل هي من قضايا الأعيان، إلى غير ذلك.
فلو كان من أصول العلماء إعذار جاهل التوحيد لقالوا: إن هذا الرجل جهل قدرة الله وعذر بجهله، ولما احتاجوا إلى التأويل الذي لا يخفى ذمه عندهم ولا يلجأون إليه إلا في حالة الضرورة.
وقيل أيضا إن هذا الرجل جهل صفة من الصفات وقد اختلف في تكفير جاهل الصفة، نعم ليس كل الصفات فإن من الصفات ما لا يصح التوحيد إلا يعلمه.
أما ما رواه ابن ماجه وغيره من سجود معاذ حين قدم من الشام للنبي صلى الله عليه وسلم فكان من قبيل سجود التحية ونهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: ( لا تفعل، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )[6] ثم اعلم أن معاذا هو الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لمناظرة أهل الكتاب ودعوتهم كما في الصحيحين فكيف يجهل التوحيد ويسجد لغير الله تعبدا.
وإذا راجعت التفاسير عند قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ..} [البقرة:34]، وقوله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا.. }[يوسف:100]، ستجد أن سجود التحية كان مشروعا إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عنه، راجع القرطبي وابن كثير وفتح القدير للشوكاني.
واستدلوا كذلك بقصة الحواريِّين في قوله تعالى {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء.. } [المائدة:112]، فزعموا أن القوم شكوا في قدرة الله وعذروا بجهلهم، ولم يعلموا أنه جاءت القراءة (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ ) بالتاء وفتح الباء قرأ بها الكسائي وابن عباس وعلي وعائشة وغيرهم، فتحمل عليها القراءة الأخرى التي هي عندئذ بمعنى هل يُجيبك ربُّك وهذا معلوم عند العرب.
ثم إن من العلماء من قال بتكفيرهم بذلك القول فاستتابهم نبيهم {اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[المائدة:112] ذهب إليه ابن جرير الطبري. ثم تابوا واتقوا كما في قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ.. } [الصف:14]، والجمهور على أنهم لم يشُكُّوا في قدرة الله تعالى، وذكر البغوي ذلك عن الصحابة، عن علي وعائشة وابن عباس وغيرهم.
ومن شُبَههم الاستدلال بقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.. }[البقرة:286] وقوله: }وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ.. } [الأحزاب:5] وما في ذلك المعنى من أحاديث صحيحة معلومة في رفع الخطإ والنسيان، فقالوا: إن الجهل من الخطإ، وهذا القول ليس هذا محله لأنه في المؤمن العالم بالتوحيد من أمة النبي صلى الله عليه وسلم لا في جاهل التوحيد الذي لم يحقق الإيمان، وقد مرَّ بنا قوله تعالى: {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [الحجرات:2] والمخطئ لم يشعر.
وعجيب ما استدل به البعض من قوله تعالى {قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [يوسف:89] فقالوا إنهم عُذروا بجهلهم في قوله {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.. }[يوسف:92]، ومع أنهم قيل أنهم كانوا صغارا كما قال القرطبي وغيره في قوله تعالى (جَاهِلُونَ) إلا أن الآية حجة عليهم لقوله تعالى عنهم {تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ }[يوسف:91] فاعترفوا بخطئهم ولو كانوا معذورين لما كانوا مخطئين، ويؤكد ذلك قوله تعالى عنهم {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ }[يوسف:97] فهذا يؤكد أنهم خاطئون وليسوا معذورين بجهلهم إن صح أنه جهل كما قال المحتجون، وعلى كل حال ليس هو جهلا بالتوحيد ولذلك استغفر لهم يعقوب ربَّه إنه هو الغفور الرحيم، واعلموا أن العفو ليس من باب العذر بالجهل.
ويحتجون كذلك بحَلِف عمر وبقول إبراهيم {هَذَا رَبِّي.. }[الأنعام:76] وغير ذلك، وضعفت والله مسألة يحتج لها بمثل هذا.
واعلموا أيها الإخوة الكرام أن هؤلاء يخلطون بين صفحه صلى الله عليه وسلم وعفوه عمن سبَّه أو فعل غير ذلك مما يوجب الكفر والقتل وبين العذر بالجهل، فالذين سبُّوا النبي صلى الله عليه وسلم أو انتقصوا منه في حياته ولم يأمر بقتلهم لم يعذرهم صلى الله عليه وسلم بالجهل، وإنما عفا عنهم صلى الله عليه وسلم فله الحق في ذلك، وليس لنا ترك حقه صلى الله عليه وسلم، وقد استوفى العلماء ذلك كالقرطبي وابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر، والله تعالى يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }[الأعراف:199] وقد نقل أبو بكر الفارسي الشافعي في كتابه "الإجماع" الإجماع على كفر من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم.
ونجدهم أيضا يخلطون بين الاستتابة والعذر بالجهل، فحيثما وجدوا استتابة قالوا هي عذر بالجهل وفقنا الله للصواب.
واعلموا أن الفقهاء لم يذكروا العذر بالجهل في باب الردة من تصانيفهم وإنما يذكرون الأقوال والأفعال التي يكفر صاحبُها ويقولون: إن من ارتكبها فهو مرتدّ ولا يستثنون الجاهل، بل إن بعضهم يقول بالتربص به أياما لعله يعلم بعد جهله، وهو ما يهدم القول بالعذر بالجهل، وهذا منهم إشارة إلى أن الردة تقع بالجهل، وقد أشار إلى ذلك أبو بكر بن العربي في كتاب "التوسط في أصول الدين".
وهذا المعنى معروف معلوم عند العلماء كالقاضي عياض في الشفاء إذ صرَّح بعدم العذر بالجهالة في التوحيد، وقال الشوكاني في الردة: "لا يعتبر في ثبوتها العلم" بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري أو فعل فعلا كفريا، وهذا كثير معلوم في مصنفات أهل العلم، بل نقل القرافي الإجماع على عدم العذر بالجهل في أصول الدين، وقال به الطبري وغيره، أو بعبارة المتأخرين: "لا يُعذر بالجهل في الشرك الأكبر".
وهنا أقول إنه ينبغي التفصيل بين الأمور التي يُعذر بجهلها حتى لا يقع الخلط. أما التوحيد وأصول الدين فهذا لا يُعذر جاهله مطلقا، لأن عبادة غير الله لا توجد إلا من كافر وإن صرّح بالإسلام، وأما ما لا سبيل إلى معرفته إلا بالنص كالخبريات فلا يُكفَّر جاهله إلا بعد تعليمه إياه، فإن علمه وأنكره كفر وهذا كاستحلال المحرمات وجحد الواجبات.
فهذا النوع من الجهل ليس معذورا صاحبه على الإطلاق، بل يُعذر حيث لم توجد مظنة العلم، فإن وجدت مظنته وكان بالإمكان التعلم لم يُعذر، وأقيم عليه الحد فيما فيه حد، كما في قصة قدامة بن مظعون مع عمر بن الخطاب مع أنه كان متأولا، وهنا أيضا أقول: ليس التأويل على إطلاقه، وإلا فابن عربي والحلاج وغيرهما من أهل وحدة الوجود متأوِّلون، ومع ذلك كفار، إذ لا ينفع التأويل في أصول التوحيد التي لا يتحقق إلا بها، لأنها قطعية لا مجال للتأويل فيها.
هذا وقد اتفق العلماء على كفر من لم يوحد الله من أهل الفترة وإنما اختلفوا في اختباره يوم القيامة أو تعذيبه، فمن هنا ندرك أن احتجاج هؤلاء بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء:15] خارج نطاق النزاع لأننا لا نتكلم عن التعذيب في الآخرة، وإنما عن التكفير في الدنيا مع أن العذاب في الآية دنيوي كما نسب القرطبي وغيره للجمهور.
وهنا أقول: إذا كان زيد بن عمرو بن نفيل موحِّدا كما في صحيح البخاري فماذا عن الذين لم يحققوا التوحيد في زمنه، وليس في مقابل التوحيد إلا الشرك والكفر.
هذا واعلموا يا إخوة الإيمان أن من عذر مستغيثا بغير الله يذبح عند قبور الأولياء والصالحين أثقلت كاهلَه التمائمُ كيف لا يعذر جنديا من جنود الطاغوت، وسيفا مُهَنَّدا على أولياء الله، وركيزة قوية لتدعيم حكم الطاغوت.
إنه لم يتلبس بشيء من تلك الشركيات التي تلبس بها ذلك القبوري، وإنما زعم أنه في جيش مسلم يقوده رئيس مسلم لدولة مسلمة، فإذا قلت له: تقاتل في سبيل الطاغوت، قال معاذ الله، بل أقاتل في سبيل الله، ولولا وجود جيشنا لما وجد أمن ولا استقرار بإذن الله بل كانت الفوضى وعمَّ الفساد، بل يقول إنه في ذلك المنصب لمصلحة الإسلام والمسلمين.
وإذا قلت له: إنه يُدافع عن حكم لا يحكم بشرع الله رأيته يجهل ذلك، فمن سار على درب هؤلاء الذين يعذرون بالجهل مَن وقع في الكفر، فسيعذر هؤلاء الطواغيت وكُبَراءَهم المعطلين لشرع الله، الموالين لليهود والنصارى الراكنين للذين ظلموا، الصادين عن سبيل الله بإشاعة الفحشاء والمنكر، المتشبهين بالكافرين في نظام حياتهم وحُكْمهم، نسأل الله الهداية والرشاد.
ألا تعلم أن جنود الطاغوت السعودي المحاربين للشباب المجاهدين والشيوخ المجاهدين بعلمهم المعتقلين، يظنون أنهم مجاهدون في سبيل الله، وأن أولئك الشباب ضالُّون وعلماءَهم مخطئون، كما أفتى بذلك العلماء عندهم، وهم أيضا عسكر يذبُّون عن الطاغوت بأقلامهم وألسنتهم ومكانتهم عند الناس.
وهذا باب يعطَّل من خلاله الجهاد في كثير من البلاد، كما يفعل إخواننا في أفغانستان والجزائر والعراق وغيرها من البلاد التي يقاتل المجاهدون فيها جنودا يوالون الطاغوت ويدَّعون الإسلام، وفي إعذارهم إحباط لهمم الشباب المعتزين بالإسلام الراغبين في نصرته، المتحمسين لنيل الشهادة في سبيل الله.
فنقول للذين يعذرون بالجهل في التوحيد ويطلقون في العذر فيما سواه ولا يقيدون: ابحثوا في الأدلة وتحرَّوا الصواب والرجوعَ إلى الحق، فإن كان ما سمعتم حقا فارجعوا إليه، وإن كان خلاف ذلك عندكم فلا أقل من أن تعذرونا وقوفا عند أصلكم وثباتا عليه حتى لا تتناقضوا فما قلنا إلا ما نعلم والله الموفق للصواب.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتِّباعَه وأرنا الباطل باطلا ولا تجعلنا أتباعه، واجعلنا هداة مهديين لا ضالين ولا مضلين.
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
والحمد لله رب العالمين.
محمد سالم ولد محمد الأمين المجلسي
09/09/1426 هـ
عدل سابقا من قبل ربيع الانس في الجمعة أبريل 20, 2012 3:25 am عدل 1 مرات
رد: الرد السهل على أهل العذر بالجهل
[1] رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند (4/13).قال ابن القيم في الزاد (3/588) بعد أن ساقه بتمامه: هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني رواه عنه إبراهيم بن حمزة الزبيري وهما من كبار علماء المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح احتج بهما إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته، فممن رواه: الإمام ابن الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل فى مسند أبيه وفي كتاب السنة وقال: كتب إلي إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة بن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت به إليك فحدث به عني، ومنهم: الحافظ الجليل أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل فى كتاب السنة له، ومنهم: الحافظ أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان العسال في كتاب المعرفة، ومنهم: حافظ زمانه ومحدث أوانه أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني في كثير من كتبه، ومنهم: الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان أبو الشيخ الأصبهانى في كتاب السنة، ومنهم: الحافظ بن الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة حافظ أصبهان، ومنهم: الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه، ومنهم: حافظ عصره أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني وجماعة من الحفاظ سواهم يطول ذكرهم، وقال ابن مندة: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما وقد رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة منهم أبو زرعة الرازي وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده بل رووه على سبيل القبول والتسليم ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة وهذا كلام أبي عبد الله بن مندة اهـ. وقال الهيثمي في المجمع (10/615): رواه عبد الله والطبراني بنحوه وأحد طريقي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات والإسناد الآخر وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط: إن لقيطا. وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف مسلسل بالمجاهيل.
[2] رواه البخاري (100) ومسلم (2673).
[3] رواه مسلم (2674).
[4] رواه البخاري (4636).
[5] رواه الترمذي (2180)
[6] رواه ابن ماجه (1853)، قال في الزوائد :رواه ابن حبان في صحيحه. قال السندي كأنه يريد أنه صحيح الإسناد، قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
[2] رواه البخاري (100) ومسلم (2673).
[3] رواه مسلم (2674).
[4] رواه البخاري (4636).
[5] رواه الترمذي (2180)
[6] رواه ابن ماجه (1853)، قال في الزوائد :رواه ابن حبان في صحيحه. قال السندي كأنه يريد أنه صحيح الإسناد، قال الشيخ الألباني: حسن صحيح.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى