الدراسات الاستشراقية حول القرآن (1-3)
صفحة 1 من اصل 1
الدراسات الاستشراقية حول القرآن (1-3)
الدراسات الاستشراقية حول القرآن (1-3)
أ.د.عبد الرحيم علي محمد
مدير معهد الخرطوم الدولي للغة العربية
2009-10-07
(نموذج موير، واط، وبيل)
تتناول هذه الدارسة ثلاثة من المستشرقين، هم بالترتيب التاريخي "وليم موير"، و"ريتشارد بيل" ثم "مونتجمري واط".
يصعب وصف هذه المجموعة بأنها مدرسة، لأن (موير) و(واط) كانا مؤرخين وانصب اهتمامهما على دراسة التاريخ الإسلامي، وفي هذا المجال كان أكثر إنتاجهما الفكري، أما (بيل) فقد كان إسهامه الأكبر هو ترجمة لمعاني القرآن الكريم وما صاحبها من دارسات وآراء.
ومع ذلك فقد كان لوليام موير آراء عن القرآن، عبّر عنها في مقدمة كتابه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأفرد فصلاً كاملاً عن القرآن، تناول فيه جمع القرآن وترتيبه وأسلوبه. وتبع بروفيسور (واط) (موير) في الاهتمام بالتاريخ والسيرة، ولكنه كذلك قام بإحياء كتاب أستاذه (بيل) حيث أعاد صياغته ونظم أفكاره بطريقة يسّرت قراءته، ونفت عنه بعض الأساليب الجارحة التي اشتمل عليها الكتاب، وربما كانت سبباً في تعويق انتشاره. لم يكتف (واط) بإعادة صياغة الكتاب، ولكنه عبّر في مواضع متعددة عن اختلافه مع أستاذه (بيل) وإن كان قد انتصر له في سائر نظرياته.
لقد كان للآراء التي عبّر عنها ثلاثتهم نظائر فيما قال به مستشرقون آخرون، من أمثال نولدك وبالشير وغيرهم، كما أن اختلافهم فيما بينهم في آراء تفصيلية، أو في أسلوب التناول ليس بمعزل عن التيار العام في فكر الاستشراق وهذا يجعل من الصعب اعتبار هذه المجموعة مدرسة فكرية مستقلة.
غاية ما يمكن الذهاب إليه في وصف جوانب التشابه في الآراء وتأثير بعضهم على بعض، هو أن آراء (موير) حول القرآن أثرت على (بيل)، وربما أوحت إليه وشجعته لدراسة بعض ظواهر الأسلوب القرآني، ومن المؤكد كذلك أن (واط) قد اهتم بآراء (بيل) وتأثر بها وروج لكثير منها.
موثوقية النص القرآني:
إن كتاب (وليام موير) عن حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) من الكتب المتقنة في دراسة السيرة النبوية، وقد صدره بفصل عن القرآن الكريم من حيث أن القرآن هو المصدر الأول لدراسة هذه السيرة. تليه الأحاديث النبوية، ثم ذكر الشعر والمراجع المعاصرة في مصادر ثانوية. وحيث أن مقصده من دراسة القرآن كان محدوداً بأهمية الكتاب في تحقيق أخبار السيرة، فقد كان في تناوله معنياً بموثوقية النص أولاً، ثم بما يرتبط بهذه الموثوقية من مظاهر أسلوبية أو غيرها.
يذهب موير إلى أن النص الذي بين أيدينا، أي المصحف العثماني كما نعرفه اليوم هو الذي كان موجوداً مقروءاً على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه يشهد بمثل ما شهد به فون هامر Von Hammer: " إنه يتمسك بأن القرآن الذي لدينا هو كلام بنفس القوة التي يتمسك بها المسلمون إنه كلام الله"(1). ويسوق موير بين يدي هذه النتيجة حججاً عديدة منها:
أولاً: إن الوحي كان حجر الزاوية في كل شئون الإسلام، وإن تلاوته في الصلاة وغيرها وترديد معانيه في شؤون الحياة كان واجباً على المسلم، وكان من معايير التقدير والتكريم أن يتفوق المرء في هذه المجال، حتى إن وضع الشهداء في القبور في أُحد كان بترتيب يراعى فيه حفظهم للقرآن، وقد كان الحفظ في الجزيرة العربية قبل الإسلام خاصية معروفة لحفظ الشعر والأخبار والأنساب، مما نمّى ملكة الحفظ وشحذها أيما شحذ، ثم جاء للقرآن فتلقته هذه الملكات بالاهتمام والتحفز الذي هو مقارن لليقظة الروحية.
ولذلك فإن كثيراً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حفظوا القرآن كله، وكانوا قادرين على تلاوته حفظاً عن ظهر قلب في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبدرجة عالية من الدقة(2). ولكن موير يتحفظ هنا فيذكر أن ذلك لا يعني أنهم كانوا يحفظونه على الترتيب الذي عرف به اليوم، أو أن السور بشكلها وترتيبها الحالي كانت معروفه هكذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم(3).
ثانياً: إن الكتابة كانت شائعة في مكة قبل إعلان نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن بعض أصحاب النبي قد أمروا في المدينة بكتابة الوحي، ويستدل هنا بحادثة أسرى بدر وأمرهم بتعليم الكتابة، وأن أهل المدينة وإن لم تكن الكتابة بينهم شائعة شيوعها في مكة، كان بعضهم يكتب، وما دامت صنعة الكتابة معروفة هكذا فمن المعقول أن يستنج أن نص القرآن كما حفظ في الصدور فقد حفظ بنفس العناية كتابةً في الصحف. وأن صحائف عديدة تشتمل على أجزاء من القرآن قد كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها في مجملها مشتملة على كل النص القرآني.
ثالثاً: إن من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل دعاة من أتباعه من القبائل التي تعتنق الإسلام، وكان بعض هؤلاء الدعاة يحملون توجيهات مكتوبة، وأجزاء من القرآن مكتوبة كذلك، خاصة التي تكثر قراءتها واستعمالها في الحياة العامة، وقد ذكر في قصة إسلام عمر أنه وجد في بيت أخته نسخة مكتوبة من سورة طه، ويستدل موير بهذا كله على أن كتابة الصحف كانت معروفة في وقت مبكر قبل الهجرة، أي في ظروف الاضطهاد وقلة الأصحاب، فمن المؤكد إذن أن الكتابة واستنساخ القرآن قد تضاعف وانتشر بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتقلوا إلى المدينة، وأصبح الأمر بأيديهم وعندهم السلطة، أصبحت آيات القرآن، شريعة حاكمة(4).
ويتساءل موير عن المصحف الذي جمعه زيد هل يطابق مصحف عثمان؟ ويسوق عدة أسباب للاعتقاد بأن مصحف عثمان هو مصحف زيد، وأهم الأسباب في نظره لتأييد هذا الاعتقاد، أنه لم يقل أحد في ذلك الوقت بأن عثمان رضي الله عنه قد مس المصحف بأي تغيير، فلا توجد أي أخبار من ذلك العصر تشير إلى نوع اتهام كهذا، ولو أن ما يقوله بعض المتأخرين من الشيعة، من اتهام عثمان بترك بعض آيات كان فيها تفضيل علي صحيحاً، أبرز خلاف واضح من الأمويين والعلويين في ذلك الوقت، أي عند ظهور مصحف عثمان. كما أن أصحاب علي عند وفاة عثمان ما كانوا ليقبلوا بالكتاب لو كانوا يعتقدون أنه حُرِّف من أجل إسقاط دعوى أمامهم، بل كيف يعقل لو كان الأمر كذلك أنهم استمروا يستعملون نفس المصحف، ويقرءون ذات القرآن. وقد كان كثير من الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب كما سمعوه، شهوداً على جمع عثمان، وما كان أولئك ليسكتوا على أي زيادة أو نقصان.
وهكذا يخلص السير وليام موير إلى أن مصحف عثمان ما هو إلا نسخة مستخلصة من صحف زيد، سوى أنها أكثر مطابقة للهجة قريش، وأن بعض قراءات المنطقة قد حذفت منها(5).
ولكن إلى حد كان مصحف زيد مطابقاً لما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول موير إن إخلاص أبي بكر رضي الله عنه وبساطته، شاهدان على صدق إيمانه بنبوة محمد صاحبه صلى الله عليه وسلم. وإنه كان عميق الثقة في أن هذا القرآن، هو كلام الله، وإن هذا ينطبق على الجيل من المؤمنين الأوائل الذين عاصروه، ولذلك لا يستغرب أن يكون همّ أبي بكر الأول، وكذلك عمر الخليفة الثاني، أن يحفظا نسخة صادقة وكاملة من القرآن، الذي اعتقدا أنه كلام الله.
ولا شك أن الكتاب الذين كتبوا الوحي، وكذلك الأصحاب الذين حفظوا بضع آيات على جريد النخل أو الأحجار، حملوها إلى زيد بنفس دافع الثقة والإخلاص لحفظ الكتاب الذي آمنوا به من الله(6).
ويمضي موير مبيناً أسباب اعتقاده بصحة مصحف زيد فيقول: "لقد جُمع المصحف في غضون العامين أو الثلاثة الأوائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الأصحاب قد حفظوا جميع التراتيل - ربما باستثناء بعض المنسوخات - وإن كل مسلم اعتز بحفظ قدر ما في ذاكرته من القرآن، وإنه قد كان ثمة حفاظ يتلون القرآن، في الصلاة، ومن أجل التعليم، في جميع الأنحاء التي امتد إليها الإسلام. لقد كان هؤلاء جميعاً بمثابة الجسر الحي الواصل، بين الوحي غضاً من بين شفتي النبي وبين المصحف الذي جمعه زيد، وهكذا كانت لدى ذلك الجيل أسباب التأكد من أن الوحي قد حُفظ، وأنه لم يتعرض لأي تغيير أو تبديل".
ثم إن الصحف التي بأيدي الأصحاب، وتداولها ذلك الجيل - ربما كل من كان يقرأ منهم - له صحيفة تحتوي على جزء أو آيات من القرآن، وهؤلاء جميعاً تلقُّوا بالقبول النسخة التي جمعها زيد، ولم نسمع عن آيات أو جمل أو كلمات حذفت، أو اختلفت مع النسخة التي اعتُمدت، وعنى ذلك أن هذه النسخة اشتملت على كل ما كان متداولاً من النسخ ووافقته، وبذلك تجاوزته واستعلت عليه(7).
وأخيراً يذكر موير حجة أخيرة ودليلاً على صحة النص، وهي بساطة وتركيب السور، التي يرى أنها دليل قوي على أن الذين جمعوا القرآن، لم يتصرفوا بإزالة أي تناقضات أو إضافات حروف لضمان الاتصال في الكلام، ولم يحذفوا التكرار، بل وضعوا هذه المجموعات التي عثروا عليها كما وجدوها دون تصرف حتى في الآيات التي تلفت نظر النبي إلى بعض أخطائه، وفي الآيات التي ناقضتها أو نسختها آيات أخرى، كل ذلك في نظره شاهد على صدق وأمانة زيد والذين جمعوا القرآن معه(8).
هذه جملة ملاحظات السير وليام موير، وهي تدل على اقتناع كامل بصحة القرآن وصحة توثيق النص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن موير في نفس الوقت توقف عند آية النسخ المذكورة في سورة البقرة )مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( البقرة106.
ويستنتج من هذه الآية: أن آيات من القرآن ربما تكون قد قُرئت ثم تُركت، أو نُسخت فلم يشملها المصحف. وإنه لنفس السبب يرى أن آيات أخرى ربما أراد النبي أن تنسخ وتنسى جمعها أصحابه وأثبتوها في المصحف(9).
ويتوقف موير عند ظاهرة السياق، ويُبدي شكاً كبيراً في أن يكون ترتيب القرآن على هيئته كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ويذهب إلى أن الذي كان معروفاً هو مقطوعات من الآيات لا السور، وأن هذه المقطوعات ربما كانت طويلة بعض الأحيان، ثم أنها جُمعت ووُضِعت بعضها مع بعض في غير نظام، ومن هنا لا يمكن الاعتماد على تقارب الآيات أو الاستدلال على تاريخ نزولها، ولا على وحدة موضوعها(10).
وفي موضع آخر يقول: "لا يوجد سبب للشك، في أن عدداً من السور على الأقل، كما هو تركه النبي من حيث مادة السور ومن حيث ترتيبها. وأما بقية السور التي تشابه فيسفساء ململمة من مقطوعات صحيحة، وعادة طويلة طولاً مقدراً، ومرتبة كما كانت تقرأ في المجتمعات، وعلى الوجه الذي حفظت به في الصدور، أو على الأوراق، كما سمعت من فم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه العبارة تراجع نسبي عن الموقف السابق، حول وجود السورة القرآنية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" (11).
يظهر من مراجعة أفكار السير موير حول القرآن، إنه كان واثقاً من صحة النص القرآني، من حيث لا زيادة فيه ولا نقصان، وأنه لم تتدخل يد في تعديله أو المساس به، في أثناء جمعه على عهد الخليفة أبي بكر، ثم على عهد الخليفة عثمان، ولكنه توقف كثيراً عند مسألة ترتيب الآيات داخل السورة وترتيب السور في المصحف، وأبدى شكاً كبيراً في أن يكون هذا الترتيب الذي عليه المصحف كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد استنتج من دراساته للقرآن، أن الوحدة الأساسية للقرآن هي المجموعة Passage وأن السور تكونت منها، وأن الصحابة كانوا يتلون مجموعات الآيات التي سجلوها كتابة، أو حفظوها عن ظهر قلب. ثم من هذه المجموعات تكونت السور، وقد أشكل عليه أن السور لم ترتب ترتيباً تاريخياً، أي بحسب تاريخ النزول، ولا ترتيباً موضوعياً بحسب موضوعات الآيات. وأشكل أيضاً، أن آيات نزلت في المدينة، تتلوها في السورة آيات سابقة لها في النزول في مكة، وأن الآية تشتمل على أمر، ربما تتلوها مباشرة آية تلغي ذلك الأمر أو تقيده أو تخفف منه.
لم يكن السير وليام موير في أفكاره حول القرآن معنياً بالأسلوب ولم يحاول تفسير ظاهرة النظم، أو انعدام الترتيب كما أسماها، ولكنه اكتفى بأن برَّأ اللجنة التي جمعت القرآن من أية محاولة من التنسيق أو الترتيب، إلاَّ فيما كان سبق ترتيبه وجمعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نظره غير قليل. حيث اعتبر أن كثيراً من السور، كانت معروفة بتركيبها وترتيبها الذي أُثبت في المصحف قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
لماذا إذن أشكل نظم القرآن على موير؟
إنَّ نزو القرآن منجماً في مجموعات من الآيات مسلّم بهـا وهو الأساس الذي فهم المسلمون به القرآن، ولكن ذلك لم يتعارض عند علماء المسلمين مع كون السورة مشتملة على هذه المجموعات، وأن موضوعات عدة غير متنافرة، بل مرتبطة ومتكاملة تعالجها السورة الواحدة، وتتداخل فيها عوامل تاريخ النزول مع عوامل التنظيم الموضوعي.
ولكن موير نظر إلى النظم القرآني بمعايير التأليف الحديث، وحاكم النص بهذه المعايير المستحدثة، ولذلك وقع في حيرة كبيرة. ويبدو أن افتراضات موير وملاحظاته النقدية على نظم القرآن، أثرت كثيراً على (ريتشارد بيل)، لأن أصداء من تلك الأفكار تعود إلى البروز في دراسات (بيل) واجتهاداته الجريئة في إعادة تنظيم السور.
والفرق بين موير و(بيل)، هو أن موير أبدى ملاحظاته ولم يقدم أمثلة عليها، كما أنه لم يتوسع في إثباتها، لأنه كان معنياً أصلا بمدى موثوقية النص، وليس بأساليبه أو ترجمته، كما كان الحال مع (بيل).
ــــــــــــــــــ
الإحالات المرجعية:
1. السير وليام موير، 1923The life of Mohammed Edinburgh, مقدمة الكتاب، ص27
2. المصدر السابق ص 16
3. المصدر السابق ص 17
4. المصدر السابق ص20
5. المصدر السابق ص25
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق.
9. المصدر السابق، الصفحات 26-28
10.المصدر السابق.
11.المصدر السابق.
أ.د.عبد الرحيم علي محمد
مدير معهد الخرطوم الدولي للغة العربية
2009-10-07
(نموذج موير، واط، وبيل)
تتناول هذه الدارسة ثلاثة من المستشرقين، هم بالترتيب التاريخي "وليم موير"، و"ريتشارد بيل" ثم "مونتجمري واط".
يصعب وصف هذه المجموعة بأنها مدرسة، لأن (موير) و(واط) كانا مؤرخين وانصب اهتمامهما على دراسة التاريخ الإسلامي، وفي هذا المجال كان أكثر إنتاجهما الفكري، أما (بيل) فقد كان إسهامه الأكبر هو ترجمة لمعاني القرآن الكريم وما صاحبها من دارسات وآراء.
ومع ذلك فقد كان لوليام موير آراء عن القرآن، عبّر عنها في مقدمة كتابه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وأفرد فصلاً كاملاً عن القرآن، تناول فيه جمع القرآن وترتيبه وأسلوبه. وتبع بروفيسور (واط) (موير) في الاهتمام بالتاريخ والسيرة، ولكنه كذلك قام بإحياء كتاب أستاذه (بيل) حيث أعاد صياغته ونظم أفكاره بطريقة يسّرت قراءته، ونفت عنه بعض الأساليب الجارحة التي اشتمل عليها الكتاب، وربما كانت سبباً في تعويق انتشاره. لم يكتف (واط) بإعادة صياغة الكتاب، ولكنه عبّر في مواضع متعددة عن اختلافه مع أستاذه (بيل) وإن كان قد انتصر له في سائر نظرياته.
لقد كان للآراء التي عبّر عنها ثلاثتهم نظائر فيما قال به مستشرقون آخرون، من أمثال نولدك وبالشير وغيرهم، كما أن اختلافهم فيما بينهم في آراء تفصيلية، أو في أسلوب التناول ليس بمعزل عن التيار العام في فكر الاستشراق وهذا يجعل من الصعب اعتبار هذه المجموعة مدرسة فكرية مستقلة.
غاية ما يمكن الذهاب إليه في وصف جوانب التشابه في الآراء وتأثير بعضهم على بعض، هو أن آراء (موير) حول القرآن أثرت على (بيل)، وربما أوحت إليه وشجعته لدراسة بعض ظواهر الأسلوب القرآني، ومن المؤكد كذلك أن (واط) قد اهتم بآراء (بيل) وتأثر بها وروج لكثير منها.
موثوقية النص القرآني:
إن كتاب (وليام موير) عن حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) من الكتب المتقنة في دراسة السيرة النبوية، وقد صدره بفصل عن القرآن الكريم من حيث أن القرآن هو المصدر الأول لدراسة هذه السيرة. تليه الأحاديث النبوية، ثم ذكر الشعر والمراجع المعاصرة في مصادر ثانوية. وحيث أن مقصده من دراسة القرآن كان محدوداً بأهمية الكتاب في تحقيق أخبار السيرة، فقد كان في تناوله معنياً بموثوقية النص أولاً، ثم بما يرتبط بهذه الموثوقية من مظاهر أسلوبية أو غيرها.
يذهب موير إلى أن النص الذي بين أيدينا، أي المصحف العثماني كما نعرفه اليوم هو الذي كان موجوداً مقروءاً على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه يشهد بمثل ما شهد به فون هامر Von Hammer: " إنه يتمسك بأن القرآن الذي لدينا هو كلام بنفس القوة التي يتمسك بها المسلمون إنه كلام الله"(1). ويسوق موير بين يدي هذه النتيجة حججاً عديدة منها:
أولاً: إن الوحي كان حجر الزاوية في كل شئون الإسلام، وإن تلاوته في الصلاة وغيرها وترديد معانيه في شؤون الحياة كان واجباً على المسلم، وكان من معايير التقدير والتكريم أن يتفوق المرء في هذه المجال، حتى إن وضع الشهداء في القبور في أُحد كان بترتيب يراعى فيه حفظهم للقرآن، وقد كان الحفظ في الجزيرة العربية قبل الإسلام خاصية معروفة لحفظ الشعر والأخبار والأنساب، مما نمّى ملكة الحفظ وشحذها أيما شحذ، ثم جاء للقرآن فتلقته هذه الملكات بالاهتمام والتحفز الذي هو مقارن لليقظة الروحية.
ولذلك فإن كثيراً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) حفظوا القرآن كله، وكانوا قادرين على تلاوته حفظاً عن ظهر قلب في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) وبدرجة عالية من الدقة(2). ولكن موير يتحفظ هنا فيذكر أن ذلك لا يعني أنهم كانوا يحفظونه على الترتيب الذي عرف به اليوم، أو أن السور بشكلها وترتيبها الحالي كانت معروفه هكذا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم(3).
ثانياً: إن الكتابة كانت شائعة في مكة قبل إعلان نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وإن بعض أصحاب النبي قد أمروا في المدينة بكتابة الوحي، ويستدل هنا بحادثة أسرى بدر وأمرهم بتعليم الكتابة، وأن أهل المدينة وإن لم تكن الكتابة بينهم شائعة شيوعها في مكة، كان بعضهم يكتب، وما دامت صنعة الكتابة معروفة هكذا فمن المعقول أن يستنج أن نص القرآن كما حفظ في الصدور فقد حفظ بنفس العناية كتابةً في الصحف. وأن صحائف عديدة تشتمل على أجزاء من القرآن قد كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها في مجملها مشتملة على كل النص القرآني.
ثالثاً: إن من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل دعاة من أتباعه من القبائل التي تعتنق الإسلام، وكان بعض هؤلاء الدعاة يحملون توجيهات مكتوبة، وأجزاء من القرآن مكتوبة كذلك، خاصة التي تكثر قراءتها واستعمالها في الحياة العامة، وقد ذكر في قصة إسلام عمر أنه وجد في بيت أخته نسخة مكتوبة من سورة طه، ويستدل موير بهذا كله على أن كتابة الصحف كانت معروفة في وقت مبكر قبل الهجرة، أي في ظروف الاضطهاد وقلة الأصحاب، فمن المؤكد إذن أن الكتابة واستنساخ القرآن قد تضاعف وانتشر بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عندما انتقلوا إلى المدينة، وأصبح الأمر بأيديهم وعندهم السلطة، أصبحت آيات القرآن، شريعة حاكمة(4).
ويتساءل موير عن المصحف الذي جمعه زيد هل يطابق مصحف عثمان؟ ويسوق عدة أسباب للاعتقاد بأن مصحف عثمان هو مصحف زيد، وأهم الأسباب في نظره لتأييد هذا الاعتقاد، أنه لم يقل أحد في ذلك الوقت بأن عثمان رضي الله عنه قد مس المصحف بأي تغيير، فلا توجد أي أخبار من ذلك العصر تشير إلى نوع اتهام كهذا، ولو أن ما يقوله بعض المتأخرين من الشيعة، من اتهام عثمان بترك بعض آيات كان فيها تفضيل علي صحيحاً، أبرز خلاف واضح من الأمويين والعلويين في ذلك الوقت، أي عند ظهور مصحف عثمان. كما أن أصحاب علي عند وفاة عثمان ما كانوا ليقبلوا بالكتاب لو كانوا يعتقدون أنه حُرِّف من أجل إسقاط دعوى أمامهم، بل كيف يعقل لو كان الأمر كذلك أنهم استمروا يستعملون نفس المصحف، ويقرءون ذات القرآن. وقد كان كثير من الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب كما سمعوه، شهوداً على جمع عثمان، وما كان أولئك ليسكتوا على أي زيادة أو نقصان.
وهكذا يخلص السير وليام موير إلى أن مصحف عثمان ما هو إلا نسخة مستخلصة من صحف زيد، سوى أنها أكثر مطابقة للهجة قريش، وأن بعض قراءات المنطقة قد حذفت منها(5).
ولكن إلى حد كان مصحف زيد مطابقاً لما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول موير إن إخلاص أبي بكر رضي الله عنه وبساطته، شاهدان على صدق إيمانه بنبوة محمد صاحبه صلى الله عليه وسلم. وإنه كان عميق الثقة في أن هذا القرآن، هو كلام الله، وإن هذا ينطبق على الجيل من المؤمنين الأوائل الذين عاصروه، ولذلك لا يستغرب أن يكون همّ أبي بكر الأول، وكذلك عمر الخليفة الثاني، أن يحفظا نسخة صادقة وكاملة من القرآن، الذي اعتقدا أنه كلام الله.
ولا شك أن الكتاب الذين كتبوا الوحي، وكذلك الأصحاب الذين حفظوا بضع آيات على جريد النخل أو الأحجار، حملوها إلى زيد بنفس دافع الثقة والإخلاص لحفظ الكتاب الذي آمنوا به من الله(6).
ويمضي موير مبيناً أسباب اعتقاده بصحة مصحف زيد فيقول: "لقد جُمع المصحف في غضون العامين أو الثلاثة الأوائل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الأصحاب قد حفظوا جميع التراتيل - ربما باستثناء بعض المنسوخات - وإن كل مسلم اعتز بحفظ قدر ما في ذاكرته من القرآن، وإنه قد كان ثمة حفاظ يتلون القرآن، في الصلاة، ومن أجل التعليم، في جميع الأنحاء التي امتد إليها الإسلام. لقد كان هؤلاء جميعاً بمثابة الجسر الحي الواصل، بين الوحي غضاً من بين شفتي النبي وبين المصحف الذي جمعه زيد، وهكذا كانت لدى ذلك الجيل أسباب التأكد من أن الوحي قد حُفظ، وأنه لم يتعرض لأي تغيير أو تبديل".
ثم إن الصحف التي بأيدي الأصحاب، وتداولها ذلك الجيل - ربما كل من كان يقرأ منهم - له صحيفة تحتوي على جزء أو آيات من القرآن، وهؤلاء جميعاً تلقُّوا بالقبول النسخة التي جمعها زيد، ولم نسمع عن آيات أو جمل أو كلمات حذفت، أو اختلفت مع النسخة التي اعتُمدت، وعنى ذلك أن هذه النسخة اشتملت على كل ما كان متداولاً من النسخ ووافقته، وبذلك تجاوزته واستعلت عليه(7).
وأخيراً يذكر موير حجة أخيرة ودليلاً على صحة النص، وهي بساطة وتركيب السور، التي يرى أنها دليل قوي على أن الذين جمعوا القرآن، لم يتصرفوا بإزالة أي تناقضات أو إضافات حروف لضمان الاتصال في الكلام، ولم يحذفوا التكرار، بل وضعوا هذه المجموعات التي عثروا عليها كما وجدوها دون تصرف حتى في الآيات التي تلفت نظر النبي إلى بعض أخطائه، وفي الآيات التي ناقضتها أو نسختها آيات أخرى، كل ذلك في نظره شاهد على صدق وأمانة زيد والذين جمعوا القرآن معه(8).
هذه جملة ملاحظات السير وليام موير، وهي تدل على اقتناع كامل بصحة القرآن وصحة توثيق النص من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن موير في نفس الوقت توقف عند آية النسخ المذكورة في سورة البقرة )مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ( البقرة106.
ويستنتج من هذه الآية: أن آيات من القرآن ربما تكون قد قُرئت ثم تُركت، أو نُسخت فلم يشملها المصحف. وإنه لنفس السبب يرى أن آيات أخرى ربما أراد النبي أن تنسخ وتنسى جمعها أصحابه وأثبتوها في المصحف(9).
ويتوقف موير عند ظاهرة السياق، ويُبدي شكاً كبيراً في أن يكون ترتيب القرآن على هيئته كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. ويذهب إلى أن الذي كان معروفاً هو مقطوعات من الآيات لا السور، وأن هذه المقطوعات ربما كانت طويلة بعض الأحيان، ثم أنها جُمعت ووُضِعت بعضها مع بعض في غير نظام، ومن هنا لا يمكن الاعتماد على تقارب الآيات أو الاستدلال على تاريخ نزولها، ولا على وحدة موضوعها(10).
وفي موضع آخر يقول: "لا يوجد سبب للشك، في أن عدداً من السور على الأقل، كما هو تركه النبي من حيث مادة السور ومن حيث ترتيبها. وأما بقية السور التي تشابه فيسفساء ململمة من مقطوعات صحيحة، وعادة طويلة طولاً مقدراً، ومرتبة كما كانت تقرأ في المجتمعات، وعلى الوجه الذي حفظت به في الصدور، أو على الأوراق، كما سمعت من فم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذه العبارة تراجع نسبي عن الموقف السابق، حول وجود السورة القرآنية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" (11).
يظهر من مراجعة أفكار السير موير حول القرآن، إنه كان واثقاً من صحة النص القرآني، من حيث لا زيادة فيه ولا نقصان، وأنه لم تتدخل يد في تعديله أو المساس به، في أثناء جمعه على عهد الخليفة أبي بكر، ثم على عهد الخليفة عثمان، ولكنه توقف كثيراً عند مسألة ترتيب الآيات داخل السورة وترتيب السور في المصحف، وأبدى شكاً كبيراً في أن يكون هذا الترتيب الذي عليه المصحف كان معروفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد استنتج من دراساته للقرآن، أن الوحدة الأساسية للقرآن هي المجموعة Passage وأن السور تكونت منها، وأن الصحابة كانوا يتلون مجموعات الآيات التي سجلوها كتابة، أو حفظوها عن ظهر قلب. ثم من هذه المجموعات تكونت السور، وقد أشكل عليه أن السور لم ترتب ترتيباً تاريخياً، أي بحسب تاريخ النزول، ولا ترتيباً موضوعياً بحسب موضوعات الآيات. وأشكل أيضاً، أن آيات نزلت في المدينة، تتلوها في السورة آيات سابقة لها في النزول في مكة، وأن الآية تشتمل على أمر، ربما تتلوها مباشرة آية تلغي ذلك الأمر أو تقيده أو تخفف منه.
لم يكن السير وليام موير في أفكاره حول القرآن معنياً بالأسلوب ولم يحاول تفسير ظاهرة النظم، أو انعدام الترتيب كما أسماها، ولكنه اكتفى بأن برَّأ اللجنة التي جمعت القرآن من أية محاولة من التنسيق أو الترتيب، إلاَّ فيما كان سبق ترتيبه وجمعه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نظره غير قليل. حيث اعتبر أن كثيراً من السور، كانت معروفة بتركيبها وترتيبها الذي أُثبت في المصحف قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
لماذا إذن أشكل نظم القرآن على موير؟
إنَّ نزو القرآن منجماً في مجموعات من الآيات مسلّم بهـا وهو الأساس الذي فهم المسلمون به القرآن، ولكن ذلك لم يتعارض عند علماء المسلمين مع كون السورة مشتملة على هذه المجموعات، وأن موضوعات عدة غير متنافرة، بل مرتبطة ومتكاملة تعالجها السورة الواحدة، وتتداخل فيها عوامل تاريخ النزول مع عوامل التنظيم الموضوعي.
ولكن موير نظر إلى النظم القرآني بمعايير التأليف الحديث، وحاكم النص بهذه المعايير المستحدثة، ولذلك وقع في حيرة كبيرة. ويبدو أن افتراضات موير وملاحظاته النقدية على نظم القرآن، أثرت كثيراً على (ريتشارد بيل)، لأن أصداء من تلك الأفكار تعود إلى البروز في دراسات (بيل) واجتهاداته الجريئة في إعادة تنظيم السور.
والفرق بين موير و(بيل)، هو أن موير أبدى ملاحظاته ولم يقدم أمثلة عليها، كما أنه لم يتوسع في إثباتها، لأنه كان معنياً أصلا بمدى موثوقية النص، وليس بأساليبه أو ترجمته، كما كان الحال مع (بيل).
ــــــــــــــــــ
الإحالات المرجعية:
1. السير وليام موير، 1923The life of Mohammed Edinburgh, مقدمة الكتاب، ص27
2. المصدر السابق ص 16
3. المصدر السابق ص 17
4. المصدر السابق ص20
5. المصدر السابق ص25
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق.
9. المصدر السابق، الصفحات 26-28
10.المصدر السابق.
11.المصدر السابق.
مواضيع مماثلة
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (2-3)
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (3-3)
» الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (3-3)
» الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى