الدراسات الاستشراقية حول القرآن (3-3)
صفحة 1 من اصل 1
الدراسات الاستشراقية حول القرآن (3-3)
الدراسات الاستشراقية حول القرآن (3-3)
أ.د.عبد الرحيم علي محمد
مدير معهد الخرطوم الدولي للغة العربية
2009-12-01
(نموذج موير، واط، وبيل)
القول بأطوار القرآن:
أن استعمال كلمة القرآن متداخل تداخلاً واسعاً مع "كتاب" وترتيل، ووحي ولا يساعد هذا التداخل على قبول فكرة الدكتور (بيل)، أن يؤدي إلى الآيات التي كانت تترل على النبي صلى الله عليه وسلم أولا لم تكن قرآنا، وان هذه الكلمة قد عرفت فيما بعد، ثم عرفت كلمة الكتاب أخيرا. ولا أجد سببا مقنعا في محاولته هذه، إلا أن يكون لإثبات فرضية مسبقة تتعلق برأي في تطور فكرة النبوة عند النبي، وحينئذٍ لا تكون الفرضية ناشئة عن تأمل الآيات ودراستها، أي ليست لأسباب داخلية، بل مقحمة على النص من خارجه، في محاولة لتطويعه، وإيجاد دليل منه على هذا التطور.
ثم أن تجاهل الدارسات القرآنية السابقة فيما يتعلق بتوقيت النزول، وأسبابه سوى من المستشرقين، أو من العلماء المسلمين، لهو إغفال لمادة الدراسة العلمية، ولا ينتج عنه إلا منهج عشوائي، يتخير من المادة القديمة إذا طابقت رأيه، ويرفضها في غير ذلك.
أن معظم السور والآيات التي هنالك إجماع على سبق نزولها تحوي معاني وإشارات إلى أمور مما يعتبره (بيل) تطوراً متأخراً، يحتاج لإثبات ذلك أن يعارض الأخبار المأثورة جميعاً.
مسألة الفاصلة:
أن ظاهرة الفصل في القرآن مقابلة للقافية في الشعر والسجع، وقد عول عليها (بيل) في دارسته للقرآن تعويلاً كبيرا. ويبدو انه كان يعترض من القطع التي تربطها فاصلة واحدة هي قطع مستقلة بنيت منها قطع اكبر أو سور، وهذا الافتراض غير صحيح لأن تغيير الفاصلة مألوف جدا في القرآن، وقد لا يكون مقبولاً تغيير القافية في الشعر إلا في بعض أنواعه المتأخرة المنمطة، مثل الموشحات وما شابهها.
ويجب أن تلاحظ أن الفاصلة، هي الحرف الأخير في نهاية الآية أو في نهاية العبارة أن كان الكلام نثراً يختلف في أسلوبها ووظيفتها حسب الكلام ، فهي في الشعر تؤدي ثلاثة وظائف: تكون علامة لنهاية البيت المنظوم، وبهذا تساعد على ضبط الإيقاع. والثانية انه بتشابه الصوت مع اختلاف المعنى تحقيق متعة جمالية ظاهرة. والثالثة أنها تساعد على الحفظ، خاصة في الكلام الذي يؤدي حفظه. وقد كان أكثر كلام العرب يروي حفظا في بيئة تعتمد على الرواية السماعية.
وفي القرآن لا تستعمل القافية كما في الشعر، وإنما تستعمل الفاصلة على وجه لا يشبه الشعر ولا حتى السجع، إلا في سور قصار، وفي آيات محدودة.
أما أكثر استعمال الفاصلة فمن الضرب الذي يشعر بنهاية الآية، ويساعد بذلك على تقطيع الكلام، وتقسيمه تقسيما بعين على حفظه، وعلى فهمه. ولكن تشابه الحروف لا يبدو انه يتبع على وجه دقيق، كما في السجع أو في قوافي الشعر.
مسألة الوحدة الموضوعية:
هذه قضية شكلت على معظم المستشرقين الذين درسوا القرآن والأدب العربي، وقد كانت من أهم المشكلات التي واجهت الدكتور (بيل) في فهم القرآن.
إن ظاهرة النظم القرآني لابد أن تدرس في إطارها، وان تقارن بأنواع البيان المعروفة في الأدب العربي، لأن القرآن مهما تميز أسلوبه فقد نزل بلغة العرب وأساليبها كما قال ابن حرير الطبري(19)، ولذلك فإن افتراض أن السورة من القرآن مطلوب فيها أن تكون موضوع واحد. أو مواضيع متشابهة، وأن نظم الآيات يجب أن يبني إما على الموضوع أو على تاريخ النزول، لهو افتراض غير صحيح لعدة أسباب:
أولاً: العرب في أساليبهم الشعرية، وفي نثرهم الذي هو أيضا قريب من الشعر، يستحسنون أنواعا من الاستطراد والانتقال في الأسلوب، يجعل السامع مشدودا لما يسمع قادرا على تذكره، ويستعينون بضروب من الإيقاع الداخلي في القصيدة تربط أطرافها، كما بيّن أستاذنا بروفيسور عبد الله الطيب في المرشد(23).
ثانياً: يختلف هذا المنهج كثيراً عن أسلوب التأليف اليوناني والإغريقي الذي اثر على تكوين الجملة في اللغات الأوربية الحديثة، ومن ثم على أساليب التأليف عامة.
ثالثاً: النظم القديم يحمل سمات عديدة مرتبطة بسماعية البيئة، وبالرغبة المستكنة في أن الكلام سهلاً على الذاكرة، ومن فإن ظواهر التكرار والترجيع والفاصلة وتنظيم الإيقاع، هي خصائص أصيلة لكل نظم من هذا النوع.
رابعاً: إن الآية الواحدة من القرآن تحمل صفات السورة الكاملة، ففي كثير من الآيات المتوسطة والطويلة، تبرز خصائص النظم القرآني التي قد تلطف وتخفى فيها علائق ما بين المعاني، ولكنها ليست معدومة لمن يتأمل ويتذوق أساليبها.
خامساً: إن خطاب القرآن خطاب متميز، وهو إنشاد رباني، يترنم به تاليه، ويسلم جوارحه لأنغامه مثلما يتأمل معانيه، وليس مجرد خطاب ظاهر الفكر عند الإنسان ليس أقوى ولا اكبر ملكات الإدراك، وإن الخواطر وتداعي المعاني وطفرة الذهن وحدس الوجدان، كل ذلك يصوغ المعاني ويؤثر فيها، ولذلك فإن جميع أنواع الخطاب الوجداني تأبى أن تسكن في قوالب الجملة المنطقية ذات المقدمات والنتائج. وفي الشعر العربي أمثال:
خمر وتمر ورمان ومغفرة *** قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا
سادساً: الظواهر الأسلوبية التي شكلت أعلى الدكتور (بيل) ومن قبله على السير موير، وعلى معظم المستشرقين. هي علم في اللغة العربية منفرد عن علم النحو، وهو علم البيان والمعاني, وفيه ما لا يحصى من الشواهد على مغزى الاستطراد والتقديم والتأخير، والجملة الاعتراضية والحذف والإيجار والالتفات. ويبدو انه من العسير جداً على غير العرب استيعاب هذه الأساليب البيانية، ولكن ليس من العدل إهمال الظاهرة، والاعتقاد بان تفسير الأساليب القرآنية تفسيراً لغويا هو نوع اعتذار للقرآن، وان ظواهر النظم المشار إليها ما هي إلا اضطرابات وقع فيها من حاول جمع القرآن من المصحف، وان علينا أن نعيد النظر من جديد، لعلنا نعثر على التركيب المنطقي لهذه الصحف التي أدرج بعضها في بعض، وخلط ظاهرها بباطنها دون وعي، إن مثل هذا الاعتقاد لا يمكن أن ينشأ عن منهج علمي ولا يحتمل أن يقود إلى نتائج علمية.
لقد أدت محاولات الدكتور (بيل) لتشريح السورة وإعادة تركيبها، أدت إلى تشويه حقيقي، يؤدي كما لاحظ بروفيسور آربري إلى قتل النص الحي المتدفق وإحالته إلى جسد متقطع لا روح فيه. وكان هذا الأخير، من القلة النادرة من المستشرقين الذين تذوقوا الأسلوب العربي وخاصة القرآن.
لقد تمكن آربري من استساغة أسلوب القرآن، والاستمتاع بنظمه وموسيقاه واعتبره آية من الجمال، لا لشيء إلا لان آربري استطاع- دون اكثر المشتغلين بدراسة القرآن- أن يمتلك ناصية اللغة العربية، وقد كان مدخله لدراسة القرآن أصلا من باب دراسة الأدب العربي والشعر الفصيح.
لقد استطاع الدكتور آربري، أن يستبين الرباط الفني الذي يربط أجزاء السورة الواحدة، وعير عن ذلك في مواضع كثيرة، منها في قوله في مقدمة ترجمة لمعاني القرآن:
"إن السورة (من القرآن) في معظم الأحيان ذات شخصية مركبة، وهذا أمر معلوم لدى الباحثين المسلمين منذ القدم، وفي تركيب السورة تألفت فقرات تلقاها محمد في فترات زمنية متباعدة، وكوني أهملت في التجربة هذه الناحية، رغبة في إبراز السورة بشخصيتها المتكاملة حيث تكون أجزاؤها غير المتطابقة نمطا بديعا وغنيا"(21).
وعبر في موضع آخر عن جهده في أن تنقل ترجمته ولو بدرجة باهتة أسلوب القرآن الرفيع في أصله العربي ويقول: "وقد أفرغت جهدي في دراسة الإيقاعات المتداخلة، الوافرة بالأنواع التي تكون- فضلا عن جوهر الرسالة ومضمونها- حجة القرآن غير المردودة في كونه واحدا من أعظم الروائع الفنية"(22).
ويتجاوز الدكتور آربري في فهمه لأسلوب القرآن كل الصعوبات التي واجهها زملاؤه المترجمون والدارسون فيقول:
"إن الذي يقرأ كتاب المسلمين عليه أن يجتهد ليحصل على الفهم الشامل الذي تمثله فكرة أن القرآن يمثل الحقيقة الكلية التي تلقتها روح النبي. وعندئذ فقط فإن تقلبات الموضوع المفاجئة وتبدل النفس لا يشكل مشكلة كالتي واجهت كثيرا من النقاد الذين حاولوا أن يقيسوا بحر البلاغة النبوية المتدفق بمثل كأس العامة من النقد.
عندئذ تبدو السورة وحدة في ذاتها، والقرآن كله يتجلى كأنه رسالة واحدة منسجمة لأعلى حد.
ورغم انه قد استغرق استقبال الرسالة نصف عمر إنسان، فإن الرسالة في بعدها الأبدي رسالة واحدة في الأبد، وإن بدا تعبيرها الزمني متنوعا ومتعددا(21).
كلمات الدكتور آربري تظهر في فهم رسالة القرآن وأسلوبه لا مثيل له إلا عند المستشرقين الذين قبلوا الإسلام من أمثال مارمدوك يكثول. ولكنها مفارقة بعيدة عن فهم الدكتور (بيل) وعباراته حول القرآن، رغم أن الفارق الزماني لم يكن بعيدا جدا.
بروفيسور وليام مونتجمري واط:
بروفيسور مونتجمري واط كان رئيساً للدراسات الإسلامية والعربية في معهد موير بجامعة أدنبرة (اسكتلندا) حيث تشرفت بأشرافه على رسالتي للدكتوراه وقد ظل رئيسا لهذا القسم من 1964م وحتى 1979م. حين تقاعد عن العمل ولكنه ظل يؤلف حتى اليوم.
يعتبر (واط) من اشهر المستشرقين المعاصرين وأوفرهم إنتاجا، وقد تميز بدماثة في خلقه ومنهج علمي جامع بين طريقة المؤرخين وطريقة الفلاسفة، حيث كان لدراسته الفلسفة اثر في منهجه العام، وإن كانت دراساته الإسلامية قد تركزت في جوانب التاريخ والسيرة. وأشهر كتبه في الإسلام كتابه (محمد في مكة)، ثم (محمد في المدينة). وقد كتب سوى ذلك العديد من الكتب والمقالات حول الإسلام المعاصر، والمذاهب الإسلامية المختلفة، وكان له اثر لا ينكر في توجيه الرأي العام للقارئ للإنجليزية حول الإسلام والمسلمين.
لقد ذكرت في مقدمة الورقة أن بروفيسور (واط) لم تكن له إسهامات مستقلة ككثيرة في مجالات الدراسات القرآنية ولكنه أعاد صياغة كتاب أستاذه (بيل) بطريقة تجعله أيسر على القارئ وأسهل في التدوال كما إنه كتب قاموساً The companion to the Qura'n وهو قاموس للألفاظ المتدوالة في القرآن، مفيد للقارئ الأوربي بالإنجليزية خاصة.
تأثر بروفيسور (واط) بأستاذه (بيل) في كثير من آرائه حول القرآن، ولكنه عبر عن تميزه بملاحظات وآراء هي في ذاتها مهمة.
أولا: امتنع بروفيسور عن متابعة أستاذه (بيل)، ومعاصريه من المستشرفين في نسبة إلى النبيe والقول بأنه من تأليف محمد. وقال في تفسير هذا أن اللياقة مع كثافة الاتصال بين المسلمين والمسيحيين تقتضي إلا تخرج مشاعر المسلمين بمثل هذه العبارات، ولكنه ذهب لأبعد من ذلك، فقال بأنه يعتقد أن المنهج العلمي يقتضي ذلك أيضا(24).
ثانيا: تساءل (واط) إن كان بالإمكان القول بأن القرآن حق؟
وخلاصة الإجابة على السؤال عنده أن: نعم ولكن ليس على الوجه الواضح أو البسيط، فهو يذهب أولا إلى تفسير طبيعة الحقيقة وأنها نسبية تعتمد على أو البسيط، فهو يذهب أولا إلى تفسير طبيعة الحقيقة وأنها نسبية تعتمد على نظام الأفكار، أو النظام الفكري عند الإنسان. ويرى أن المسلم ينشأ في بيئة إسلامية فليتقى الحقائق الدينية من مجتمعه، ويتمكن من خلالها من تذوق التجربة الروحية الدينية في إطار ما تعلمه من أفكار وحقائق، وكذلك الميسحي. ويذهب إلى أن المسلم لا يستطيع أن يتذوق التجربة الروحية في إطار مسيحي، ولا المسيحي يستطيع ذلك في إطار إسلامي. ويمضي إلى القول بان النظام القادر على تمكين أفراده من تلقي لهذه التجربة هو نظام صحيح، ولا يمكن التمييز مفاضلة بين نظامين صحيحين. فالبوذية والإسلام واليهودية والمسيحية كلها تحتوي على الحقيقة. وبهذا المنهج الفلسفي فإن القرآن حق، في نظر بروفيسور (واط)(25).
الخلاصة:
يوشك الثلاثة تناولتهم هذه الدراسة أن يكونوا مدرسة، ولكن لكل واحد من الثلاثة اهتماماته العلمية الخاصة وأسلوبه الخاص. ولا يكاد ثلاثتهم يختلفون اختلافا كبيرا عن تيار الفكر العام الذي ساد في أوروبا عامة، وبين المستشرقين البريطانيين خاصة.
وأخيرا فقد كانت أفكار (واط) تطورا نوعيا ومنهجيا، ترك آثاره في لغة الاستشراق، وفي أساليبه. كما انه خطا خطوات جديدة في جعل الحوار بين الدراسيين المسلمين وغير المسلمين ممكنا وربما ممتعا، بعد أن كان شاقاً ومستحيلاً.
ــــــــــــــــــ
الإحالات المرجعية:
1. السير وليام موير، 1923The life of Mohammed Edinburgh, مقدمة الكتاب، ص27
2. المصدر السابق ص 16
3. المصدر السابق ص 17
4. المصدر السابق ص20
5. المصدر السابق ص25
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق.
9. المصدر السابق، الصفحات 26-28
10.المصدر السابق.
11.المصدر السابق.
12.(واط) Bill's introduction to the Qur'an Edinburgh U.P.، ص188.
13.المصدر السابق، ص119.
14.ريتشارد (بيل) The Qur'an Translated (واط) ص 89-105 Bill's Introduction to <span dir="LTR" style="font-size: 14.0pt; font-family:
أ.د.عبد الرحيم علي محمد
مدير معهد الخرطوم الدولي للغة العربية
2009-12-01
(نموذج موير، واط، وبيل)
القول بأطوار القرآن:
أن استعمال كلمة القرآن متداخل تداخلاً واسعاً مع "كتاب" وترتيل، ووحي ولا يساعد هذا التداخل على قبول فكرة الدكتور (بيل)، أن يؤدي إلى الآيات التي كانت تترل على النبي صلى الله عليه وسلم أولا لم تكن قرآنا، وان هذه الكلمة قد عرفت فيما بعد، ثم عرفت كلمة الكتاب أخيرا. ولا أجد سببا مقنعا في محاولته هذه، إلا أن يكون لإثبات فرضية مسبقة تتعلق برأي في تطور فكرة النبوة عند النبي، وحينئذٍ لا تكون الفرضية ناشئة عن تأمل الآيات ودراستها، أي ليست لأسباب داخلية، بل مقحمة على النص من خارجه، في محاولة لتطويعه، وإيجاد دليل منه على هذا التطور.
ثم أن تجاهل الدارسات القرآنية السابقة فيما يتعلق بتوقيت النزول، وأسبابه سوى من المستشرقين، أو من العلماء المسلمين، لهو إغفال لمادة الدراسة العلمية، ولا ينتج عنه إلا منهج عشوائي، يتخير من المادة القديمة إذا طابقت رأيه، ويرفضها في غير ذلك.
أن معظم السور والآيات التي هنالك إجماع على سبق نزولها تحوي معاني وإشارات إلى أمور مما يعتبره (بيل) تطوراً متأخراً، يحتاج لإثبات ذلك أن يعارض الأخبار المأثورة جميعاً.
مسألة الفاصلة:
أن ظاهرة الفصل في القرآن مقابلة للقافية في الشعر والسجع، وقد عول عليها (بيل) في دارسته للقرآن تعويلاً كبيرا. ويبدو انه كان يعترض من القطع التي تربطها فاصلة واحدة هي قطع مستقلة بنيت منها قطع اكبر أو سور، وهذا الافتراض غير صحيح لأن تغيير الفاصلة مألوف جدا في القرآن، وقد لا يكون مقبولاً تغيير القافية في الشعر إلا في بعض أنواعه المتأخرة المنمطة، مثل الموشحات وما شابهها.
ويجب أن تلاحظ أن الفاصلة، هي الحرف الأخير في نهاية الآية أو في نهاية العبارة أن كان الكلام نثراً يختلف في أسلوبها ووظيفتها حسب الكلام ، فهي في الشعر تؤدي ثلاثة وظائف: تكون علامة لنهاية البيت المنظوم، وبهذا تساعد على ضبط الإيقاع. والثانية انه بتشابه الصوت مع اختلاف المعنى تحقيق متعة جمالية ظاهرة. والثالثة أنها تساعد على الحفظ، خاصة في الكلام الذي يؤدي حفظه. وقد كان أكثر كلام العرب يروي حفظا في بيئة تعتمد على الرواية السماعية.
وفي القرآن لا تستعمل القافية كما في الشعر، وإنما تستعمل الفاصلة على وجه لا يشبه الشعر ولا حتى السجع، إلا في سور قصار، وفي آيات محدودة.
أما أكثر استعمال الفاصلة فمن الضرب الذي يشعر بنهاية الآية، ويساعد بذلك على تقطيع الكلام، وتقسيمه تقسيما بعين على حفظه، وعلى فهمه. ولكن تشابه الحروف لا يبدو انه يتبع على وجه دقيق، كما في السجع أو في قوافي الشعر.
مسألة الوحدة الموضوعية:
هذه قضية شكلت على معظم المستشرقين الذين درسوا القرآن والأدب العربي، وقد كانت من أهم المشكلات التي واجهت الدكتور (بيل) في فهم القرآن.
إن ظاهرة النظم القرآني لابد أن تدرس في إطارها، وان تقارن بأنواع البيان المعروفة في الأدب العربي، لأن القرآن مهما تميز أسلوبه فقد نزل بلغة العرب وأساليبها كما قال ابن حرير الطبري(19)، ولذلك فإن افتراض أن السورة من القرآن مطلوب فيها أن تكون موضوع واحد. أو مواضيع متشابهة، وأن نظم الآيات يجب أن يبني إما على الموضوع أو على تاريخ النزول، لهو افتراض غير صحيح لعدة أسباب:
أولاً: العرب في أساليبهم الشعرية، وفي نثرهم الذي هو أيضا قريب من الشعر، يستحسنون أنواعا من الاستطراد والانتقال في الأسلوب، يجعل السامع مشدودا لما يسمع قادرا على تذكره، ويستعينون بضروب من الإيقاع الداخلي في القصيدة تربط أطرافها، كما بيّن أستاذنا بروفيسور عبد الله الطيب في المرشد(23).
ثانياً: يختلف هذا المنهج كثيراً عن أسلوب التأليف اليوناني والإغريقي الذي اثر على تكوين الجملة في اللغات الأوربية الحديثة، ومن ثم على أساليب التأليف عامة.
ثالثاً: النظم القديم يحمل سمات عديدة مرتبطة بسماعية البيئة، وبالرغبة المستكنة في أن الكلام سهلاً على الذاكرة، ومن فإن ظواهر التكرار والترجيع والفاصلة وتنظيم الإيقاع، هي خصائص أصيلة لكل نظم من هذا النوع.
رابعاً: إن الآية الواحدة من القرآن تحمل صفات السورة الكاملة، ففي كثير من الآيات المتوسطة والطويلة، تبرز خصائص النظم القرآني التي قد تلطف وتخفى فيها علائق ما بين المعاني، ولكنها ليست معدومة لمن يتأمل ويتذوق أساليبها.
خامساً: إن خطاب القرآن خطاب متميز، وهو إنشاد رباني، يترنم به تاليه، ويسلم جوارحه لأنغامه مثلما يتأمل معانيه، وليس مجرد خطاب ظاهر الفكر عند الإنسان ليس أقوى ولا اكبر ملكات الإدراك، وإن الخواطر وتداعي المعاني وطفرة الذهن وحدس الوجدان، كل ذلك يصوغ المعاني ويؤثر فيها، ولذلك فإن جميع أنواع الخطاب الوجداني تأبى أن تسكن في قوالب الجملة المنطقية ذات المقدمات والنتائج. وفي الشعر العربي أمثال:
خمر وتمر ورمان ومغفرة *** قتلتم الشيخ عثمان بن عفانا
سادساً: الظواهر الأسلوبية التي شكلت أعلى الدكتور (بيل) ومن قبله على السير موير، وعلى معظم المستشرقين. هي علم في اللغة العربية منفرد عن علم النحو، وهو علم البيان والمعاني, وفيه ما لا يحصى من الشواهد على مغزى الاستطراد والتقديم والتأخير، والجملة الاعتراضية والحذف والإيجار والالتفات. ويبدو انه من العسير جداً على غير العرب استيعاب هذه الأساليب البيانية، ولكن ليس من العدل إهمال الظاهرة، والاعتقاد بان تفسير الأساليب القرآنية تفسيراً لغويا هو نوع اعتذار للقرآن، وان ظواهر النظم المشار إليها ما هي إلا اضطرابات وقع فيها من حاول جمع القرآن من المصحف، وان علينا أن نعيد النظر من جديد، لعلنا نعثر على التركيب المنطقي لهذه الصحف التي أدرج بعضها في بعض، وخلط ظاهرها بباطنها دون وعي، إن مثل هذا الاعتقاد لا يمكن أن ينشأ عن منهج علمي ولا يحتمل أن يقود إلى نتائج علمية.
لقد أدت محاولات الدكتور (بيل) لتشريح السورة وإعادة تركيبها، أدت إلى تشويه حقيقي، يؤدي كما لاحظ بروفيسور آربري إلى قتل النص الحي المتدفق وإحالته إلى جسد متقطع لا روح فيه. وكان هذا الأخير، من القلة النادرة من المستشرقين الذين تذوقوا الأسلوب العربي وخاصة القرآن.
لقد تمكن آربري من استساغة أسلوب القرآن، والاستمتاع بنظمه وموسيقاه واعتبره آية من الجمال، لا لشيء إلا لان آربري استطاع- دون اكثر المشتغلين بدراسة القرآن- أن يمتلك ناصية اللغة العربية، وقد كان مدخله لدراسة القرآن أصلا من باب دراسة الأدب العربي والشعر الفصيح.
لقد استطاع الدكتور آربري، أن يستبين الرباط الفني الذي يربط أجزاء السورة الواحدة، وعير عن ذلك في مواضع كثيرة، منها في قوله في مقدمة ترجمة لمعاني القرآن:
"إن السورة (من القرآن) في معظم الأحيان ذات شخصية مركبة، وهذا أمر معلوم لدى الباحثين المسلمين منذ القدم، وفي تركيب السورة تألفت فقرات تلقاها محمد في فترات زمنية متباعدة، وكوني أهملت في التجربة هذه الناحية، رغبة في إبراز السورة بشخصيتها المتكاملة حيث تكون أجزاؤها غير المتطابقة نمطا بديعا وغنيا"(21).
وعبر في موضع آخر عن جهده في أن تنقل ترجمته ولو بدرجة باهتة أسلوب القرآن الرفيع في أصله العربي ويقول: "وقد أفرغت جهدي في دراسة الإيقاعات المتداخلة، الوافرة بالأنواع التي تكون- فضلا عن جوهر الرسالة ومضمونها- حجة القرآن غير المردودة في كونه واحدا من أعظم الروائع الفنية"(22).
ويتجاوز الدكتور آربري في فهمه لأسلوب القرآن كل الصعوبات التي واجهها زملاؤه المترجمون والدارسون فيقول:
"إن الذي يقرأ كتاب المسلمين عليه أن يجتهد ليحصل على الفهم الشامل الذي تمثله فكرة أن القرآن يمثل الحقيقة الكلية التي تلقتها روح النبي. وعندئذ فقط فإن تقلبات الموضوع المفاجئة وتبدل النفس لا يشكل مشكلة كالتي واجهت كثيرا من النقاد الذين حاولوا أن يقيسوا بحر البلاغة النبوية المتدفق بمثل كأس العامة من النقد.
عندئذ تبدو السورة وحدة في ذاتها، والقرآن كله يتجلى كأنه رسالة واحدة منسجمة لأعلى حد.
ورغم انه قد استغرق استقبال الرسالة نصف عمر إنسان، فإن الرسالة في بعدها الأبدي رسالة واحدة في الأبد، وإن بدا تعبيرها الزمني متنوعا ومتعددا(21).
كلمات الدكتور آربري تظهر في فهم رسالة القرآن وأسلوبه لا مثيل له إلا عند المستشرقين الذين قبلوا الإسلام من أمثال مارمدوك يكثول. ولكنها مفارقة بعيدة عن فهم الدكتور (بيل) وعباراته حول القرآن، رغم أن الفارق الزماني لم يكن بعيدا جدا.
بروفيسور وليام مونتجمري واط:
بروفيسور مونتجمري واط كان رئيساً للدراسات الإسلامية والعربية في معهد موير بجامعة أدنبرة (اسكتلندا) حيث تشرفت بأشرافه على رسالتي للدكتوراه وقد ظل رئيسا لهذا القسم من 1964م وحتى 1979م. حين تقاعد عن العمل ولكنه ظل يؤلف حتى اليوم.
يعتبر (واط) من اشهر المستشرقين المعاصرين وأوفرهم إنتاجا، وقد تميز بدماثة في خلقه ومنهج علمي جامع بين طريقة المؤرخين وطريقة الفلاسفة، حيث كان لدراسته الفلسفة اثر في منهجه العام، وإن كانت دراساته الإسلامية قد تركزت في جوانب التاريخ والسيرة. وأشهر كتبه في الإسلام كتابه (محمد في مكة)، ثم (محمد في المدينة). وقد كتب سوى ذلك العديد من الكتب والمقالات حول الإسلام المعاصر، والمذاهب الإسلامية المختلفة، وكان له اثر لا ينكر في توجيه الرأي العام للقارئ للإنجليزية حول الإسلام والمسلمين.
لقد ذكرت في مقدمة الورقة أن بروفيسور (واط) لم تكن له إسهامات مستقلة ككثيرة في مجالات الدراسات القرآنية ولكنه أعاد صياغة كتاب أستاذه (بيل) بطريقة تجعله أيسر على القارئ وأسهل في التدوال كما إنه كتب قاموساً The companion to the Qura'n وهو قاموس للألفاظ المتدوالة في القرآن، مفيد للقارئ الأوربي بالإنجليزية خاصة.
تأثر بروفيسور (واط) بأستاذه (بيل) في كثير من آرائه حول القرآن، ولكنه عبر عن تميزه بملاحظات وآراء هي في ذاتها مهمة.
أولا: امتنع بروفيسور عن متابعة أستاذه (بيل)، ومعاصريه من المستشرفين في نسبة إلى النبيe والقول بأنه من تأليف محمد. وقال في تفسير هذا أن اللياقة مع كثافة الاتصال بين المسلمين والمسيحيين تقتضي إلا تخرج مشاعر المسلمين بمثل هذه العبارات، ولكنه ذهب لأبعد من ذلك، فقال بأنه يعتقد أن المنهج العلمي يقتضي ذلك أيضا(24).
ثانيا: تساءل (واط) إن كان بالإمكان القول بأن القرآن حق؟
وخلاصة الإجابة على السؤال عنده أن: نعم ولكن ليس على الوجه الواضح أو البسيط، فهو يذهب أولا إلى تفسير طبيعة الحقيقة وأنها نسبية تعتمد على أو البسيط، فهو يذهب أولا إلى تفسير طبيعة الحقيقة وأنها نسبية تعتمد على نظام الأفكار، أو النظام الفكري عند الإنسان. ويرى أن المسلم ينشأ في بيئة إسلامية فليتقى الحقائق الدينية من مجتمعه، ويتمكن من خلالها من تذوق التجربة الروحية الدينية في إطار ما تعلمه من أفكار وحقائق، وكذلك الميسحي. ويذهب إلى أن المسلم لا يستطيع أن يتذوق التجربة الروحية في إطار مسيحي، ولا المسيحي يستطيع ذلك في إطار إسلامي. ويمضي إلى القول بان النظام القادر على تمكين أفراده من تلقي لهذه التجربة هو نظام صحيح، ولا يمكن التمييز مفاضلة بين نظامين صحيحين. فالبوذية والإسلام واليهودية والمسيحية كلها تحتوي على الحقيقة. وبهذا المنهج الفلسفي فإن القرآن حق، في نظر بروفيسور (واط)(25).
الخلاصة:
يوشك الثلاثة تناولتهم هذه الدراسة أن يكونوا مدرسة، ولكن لكل واحد من الثلاثة اهتماماته العلمية الخاصة وأسلوبه الخاص. ولا يكاد ثلاثتهم يختلفون اختلافا كبيرا عن تيار الفكر العام الذي ساد في أوروبا عامة، وبين المستشرقين البريطانيين خاصة.
وأخيرا فقد كانت أفكار (واط) تطورا نوعيا ومنهجيا، ترك آثاره في لغة الاستشراق، وفي أساليبه. كما انه خطا خطوات جديدة في جعل الحوار بين الدراسيين المسلمين وغير المسلمين ممكنا وربما ممتعا، بعد أن كان شاقاً ومستحيلاً.
ــــــــــــــــــ
الإحالات المرجعية:
1. السير وليام موير، 1923The life of Mohammed Edinburgh, مقدمة الكتاب، ص27
2. المصدر السابق ص 16
3. المصدر السابق ص 17
4. المصدر السابق ص20
5. المصدر السابق ص25
6. المصدر السابق.
7. المصدر السابق.
8. المصدر السابق.
9. المصدر السابق، الصفحات 26-28
10.المصدر السابق.
11.المصدر السابق.
12.(واط) Bill's introduction to the Qur'an Edinburgh U.P.، ص188.
13.المصدر السابق، ص119.
14.ريتشارد (بيل) The Qur'an Translated (واط) ص 89-105 Bill's Introduction to <span dir="LTR" style="font-size: 14.0pt; font-family:
مواضيع مماثلة
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (1-3)
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (2-3)
» الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
» الدراسات الاستشراقية حول القرآن (2-3)
» الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى